لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
(22)
قولُهُ ـ تَبَارَكَ وتَعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أيْ: حقّاً أَنَّ هؤلاءِ القومَ الذينَ هَذِهِ صِفَتُهم كما تقدَّمَ، هُمُ الأَفدَحُ خُسْراناً لأَنَّهم باعُوا مَنَازِلَهم مِنَ الجِنانِ بِمَنازِلِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنَ النَّارِ; فاعْتَاضُوا عَنِ الجَنَّةِ بِالجَحِيمِ، وَعَنِ المَغْفِرَةِ بِالعَذَابِ. وذلك هو الخُسْرانُ المُبينُ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَخْسَرِينَ، أَيْ شَدِيدِي الْخَسَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ مَا افْتَرَقَ بَيْنَ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ. وَلِأَنَّهُمْ شَقَوْا مِنْ حَيْثُ كَانُوا يَحْسَبُونَهُ سَعَادَةً. قَالَ تَعَالَى في سورة الْكَهْف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} الآيتان: 103، 104. فَكَانُوا أَخْسَرِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ خَسَارَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فإنَّ "لا جَرمَ" معناها لا شكَّ، أو لاَ مَحَالَةَ، أَوْ حَقّاً، أَوْ حَقَّ وَثَبَتَ، وَتُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْقَسَمِ فَيَجِيءُ بَعْدَهَا فِي مَا يَصْلُحُ لِجَوَابِ قَسَمٍ نَحْوَ: لَا جَرَمَ لَأَفْعَلَنَّ.
قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ} اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فيها، فذَكروا فيها وجوهاً هي:
أَوَّلاً: أَنَّه مُركَّبةٌ مِنْ "لا" النافيةِ، و "جَرَمَ"، تَرْكيبَ خَمَسَةَ عَشَرَ، فصارَ معناهُما مَعْنى فِعْلِ "حَقَّ"، وعليه فيرتَفِعُ ما بعدَهُما بالفَاعِلِيَّةِ، فقولُهُ تَعالى في سورة النحلِ: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} الآية: 62، معناهُ حَقَّ وثَبَتَ كونُ النَّارِ لَهُمْ وهو مَذْهَبُ الجمهور والخَليلِ وسِيبَوَيْهِ.
ثانياً: أَنَّ "لا جَرَمَ" بِمَنْزِلَةِ قولِهم "لا رَجُلَ"، أيْ أَنَّ "لا" نافيةٌ للجِنْسِ، و "جَرَمَ" اسْمُها مَبْنيٌّ مَعَها على الفتحِ وهيَ واسْمُها في مَحَلِّ رفعٍ بالابْتِداءِ، وما بعدَهُما خَبَرُ "لا" النافِيَةِ للجِنْسِ.
ثالثًا: كالسابقِ إلاَّ أَنَّ "أنَّ" وما بعدَها في مَحَلِّ نَصْبٍ، أَوْ جَرٍّ لحَذْفِ الجَارِّ، أيْ: لا مَحَالَةَ في أَنَّهم في الآخِرَةِ، أَيْ: في خُسْرانِهم.
رابعًا: أَنَّ "لا" نافيةٌ لكلامٍ مُتَقَدِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ الكَفَرَةُ، فرَدَّ اللهُ تعالى عليهم ذلك بقولِه: "لا"، كما تَرِدُ "لا" هذِهِ قبلَ القَسَمِ في قولِهِ: {لاَ أُقْسِمُ} سورةُ القِيامَةِ، الآية: 1، وفي قولِهِ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} سورة النساءِ، الآية: 65. وقد تقدَّم تحقيقُه، ثمَّ أَتى بعدَها بِجُمْلَةٍ فعليةٍ وهي "جَرَمَ أَنَّ لهم كَذا". وجَرَمَ: فِعْلٌ ماضٍ مَعناهُ كَسَبَ، وفاعلُهُ مُسْتَتِرٌ يَعودُ على فِعْلِهم المَدْلولِ عَليْه بِسِياقِ الكلامِ، و "أنَّ" وما في حيِّزِها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ لأنَّ "جَرَم" يَتَعَدَّى، إذْ هوَ بِمَعنى كَسَبَ. قال الشاعر:
نَصَبْنا رأسَه في جِذْعِ نَخْلٍ ............... بما جَرَمَتْ يداه وما اعتدَيْنا
أي: بما كسبَتْ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. وكذلك فإنَّهم يقولون: فلانٌ هو "جَريمَةُ القَوْمِ" ويعنونَ أنَّه كاسبُهم، ومن ذلك قولُ أَبي خِراشٍ الهذلِيِّ:
جريمةُ ناهِضٍ في رأسِ نِيْقٍ .............. ترى لعظامِ ما جَمَعَتْ صَليبا
فتقديرُ الآية: كَسَبَهم فِعْلُهم أو قولُهم خسْرانَهم، وهذا قولُ أَبي إسحاقٍ الزّجّاجُ. وعليه فالوَقفُ على قوله: "لا" ثمَّ يُبْتَدَأُ بِ "جَرَمَ" بِخِلافِ ما تقدَّمَ.
خامسًا: أَنَّ معناها لا صَدَّ ولا مَنْعَ، وتكون "جَرَمَ" بمَعنى القَطْعِ، فتَقولُ: جَرَمْتُ، أَيْ: قَطَعْتُ، فيَكونُ "جَرَمَ" اسْمَ "لا" مَبنيٌّ معَها على الفَتْحِ ك "خمسةَ عَشَرَ"، وخبرُها "أنَّ" وما في حَيِّزِها، أَوْ على حَذْفِ حرْفِ الجَرِّ، أَيْ: لا مَنْعَ مِنْ خُسْرانِهم.
سادسًا وأَخيراً: "لَا" زائدةٌ، و "جَرَم" فعلٌ ماضٍ بمَعنى: حَقَّ، وثَبَتَ.
وفي هذِهِ اللفظةِ لغاتٌ: فيُقالُ "لا جِرَمَ" بِكَسْرِ الجيمِ، و "لا جُرَمَ" بِضمِّها، و "لا جَرَ" بِحَذفِ الميمِ، و "لا ذا جَرَم"، و "لا إنَّ ذا جَرَم"، و "لا ذو جَرَم"، و "لا عَنْ ذا جَرَم"، و "لا إنْ جَرَم"، و "لا عن جَرَم"، و "لا ذا جَرَ"، أي: واللهِ لا أفعل ذلك.
وعنْ أبي عَمروٍ بْنِ العلاءِ: "لا جَرُم أنَّ لهم النَّارَ" على وزن لا كَرُم، بِضَمِّ الراءِ، و "لا جَرَ"، قال: حَذَفوهُ لِكَثْرَةِ الاسْتِعمالِ، كَما قالوا: "سَوْ تَرى" يريدون: "سَوْفَ ترى".
قولُهُ: {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأخسرون} أَنَّهُمْ: "أنَّ" حرفُ تَأْكيدٍ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، و "هم" اسمُه، و "فِي الْآخِرَةِ" جارٌّ ومجرورٌ، متعلِّقٌ ب "الْأَخْسَرُونَ"، و "هُمُ" ضَميرُ فَصْلٍ أو عماد، و "الْأَخْسَرُونَ" خبَرُ "أَنَّ" مرفوعٌ وعلامةُ رفعه الواوُ لأنَّه جمعُ المذكَّرِ السالم، والنونُ عِوَضًا عن التنوين في الاسمِ المُفرَدِ، وجُمْلَةُ "أنّ" المَصْدَرِيَّة في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ على الفاعِلِيَّةِ لِـ "جَرَمَ"، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "هم" فَصْلاً، ويجوزُ أَنْ يَكونَ تَوْكيداً، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً وما بَعدَهُ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خبرُ "أنَّ". وقد أفادَ "هُمُ الأخسرون" هُنا قَصْرَ الخُسْرانِ عليهم، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا الْحَدَّ الْأَقْصَى فِي الْخَسَارَةِ، فَكَأَنَّهُمُ انْفَرَدوا بها.