قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
(63)
قولُهُ ـ تعالى ذكرُهُ: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} ابْتِدَأَ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ إِلَى مَا سَيَقُولُهُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ. وخَاطَبَهُمْ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِلَقَبِ الْقَوْمِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ "الياء" اسْتِعْطَافًا لهم وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ. وَحَذْفُ يَاءِ المتكلِّم مِنَ الرَّسْمِ مُرَاعَاةً لِلنُّطْقِ. وهذا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ السابق الذي كذّبوه فيه، وادَّعوا أنه قد أَصيبَ بمسٍ في عقلِه من أحد آلهتهم التي أبغضها وآذاها بِما حَقَّرَها ودَعا إلى نَبْذِها، فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ "قالَ" وَهُوَ الشَّأْنُ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. و "بَيِّنَةٍ" أي: بُرْهانٍ مِنَ اللهِ وحُجَّةٍ وبَيانٍ، وقد عَلِمْتُ ذلكَ وأَيْقَنْتُ به.
قولُهُ: {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} أَي: وَهَبَني رَحْمَةً خَاصَّةً مِنْهُ جَعَلَنِي بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَيْكُمْ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ، بِكِتْمَانِ الرِّسَالَةِ والسُكوتِ عمَّا يَسُوءُكمْ تعريتُهُ مِنْ بُطْلَانِ عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمْ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ وَيَدْفَعُ عَنِّي عِقَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَنْ لَا أُبَالِي بِفَقْدِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَلَا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ شَكٍّ وَارْتِيَابٍ فِي أَمْرِي، فِإنْ كُنْتُم تُنْكِرونَ نُبوَّتي وتريدون توبيخي عَلَى دَعْوَتِكُمْ فَأَنَا مُؤْمِنٌ بِأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أَتَرُونَ أَنِّي أَعْدِلُ عَنْ يَقِينِي إِلَى شَكِّكُمْ، وَكَيْفَ تَتَوَقَّعُونَ مِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ يَقِينِي بِذَلِكَ يَجْعَلُنِي خَائِفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ وَلَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي.
قولُهُ: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أَيْ: إنْ أَنَا حَرَصْتُ عَلَى تَحْقيقِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَاتِّقَاءِ سُوءِ ظَنِّكُمْ، وَارْتِيَابِكُمْ، مَا زِدُتمونِي إلَّا خُسْرَانًا، بِإِيثَارِي مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتِرَاءِ رِضَاكُمْ بِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى. وَأخرج ابْن جرير وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِدٍ ـ رضي اللهُ عنه: "فَمَا تزيدونني غير تخسيرٍ" يَقُول: مَا تزدادون أَنْتُم إِلَّا خَسَارًا. وَأخرجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَطاءٍ الْخُرَاسَانِي ـ رضي اللهُ عنه: "فَمَا تزيدونني غيرَ تَخْسِيرٍ} قَالَ: مَا تَزيدونَني بِمَا تَصْنَعُونَ إِلَّا شَرًّا لَكم وخُسْرانًا تَخْسَرونَهُ.
قولُهُ تَعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخرِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تَقْديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى نبيِّ اللهِ صالِحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، و "يَا قَوْمِ" يَا: أداةُ نداءٍ لِمُتَوَسِّطِ البُعدِ، و "قَوْمِ" مُنادَى مَنْصوبُ بالنداءِ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ منعَ من ظهورِها انْشِغالُ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ للتخفيفِ، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ المحذوفةِ ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ ل "قال"، و "أَرَأَيْتُمْ" الهمزة: للاسْتِفهامِ، و "رأيتم" فعلٌ ماضٍ بمعنى أخبروني، مَبْنِيٌّ عَلى السُكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّر، ومفعولُهُ مَحذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ البَيِّنَةِ بَعْدَ الشَّرْطِ، أَيْ أَرَأَيْتُمُ البَيِّنَةَ؟ و "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ، و "كُنْتُ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السكونِ في محل الجزم بـ "إنْ" لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ اسِمِهِ و "عَلَى بَيِّنَةٍ" جارٌّ وجرورٌ في محلِّ نصبٍ، خَبَرُ "كان"، و "مِنْ رَبِّي" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ في محلِّ جرٍّ صِفَةٌ لِـ "بَيِّنَةٍ". والياءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرٍّ، مضافٌ إليه.
قولُهُ: {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} وَآتَانِي: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على الألفِ للتعذُّرِ، والنونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلِّم ضميرٌ متَّصلٌ به في محلٍّ نصبِ مَفعولِهِ الأوَّل، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى اللهِ تعالى، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ، عطفًا على جُمْلَةِ "كان" و "مِنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ النصبِ على الحالِ مِنْ "رَحْمَةً" لأنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، و "رَحْمَةً" مَفْعولُهُ الثاني.
قولُهُ: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} الفاءُ: رابطةٌ لِجَوابِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، "مَنْ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ إِنْكارِيٍّ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، و "يَنْصُرُنِي" فعلٌ مضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّده من الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ على آخرِهِ، والنونُ لِوِقايَةِ الفعلِ من الكَسْرِ بسببِ اتِّصالِ ياءِ المتكلِّمِ بهِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على "مَنْ"، والجُمْلَةُ الفَعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ "مَنْ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" على أنَّها جَوابُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، وجُملةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ سادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "أَرَأَيْتُمْ"، و "مِنَ اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَنْصُرُنِي". و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازمٍ، و "عَصَيْتُهُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ في محلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى أَنَّهُ فِعْلَ شَرْطٍ لَها، وجَوابُ "إنْ" مَعْلُومٌ مِمَّا قَبْلَها، تَقْديرُهُ: إنْ عَصَيْتُهُ فَمَنْ يَنْصُرُني، والتاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قالَ".
قولُهُ: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسيرٍ} الفاءُ: عاطفةٌ و "ما" نافيَةٌ، و "تَزِيدُونَنِي" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثبُوتُ النُونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلَّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والنونُ للوقايةِ، وياء المُتَكَلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِه في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ أَوَّل لَهُ، و "غَيْرَ" مَفعولٌ ثانٍ لهُ منصوبٌ وهو مضافٌ، و " تَخْسِيرٍ" مُضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ ظاهرةٌ على آخره، وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلى جُمْلَةِ "أَرَأَيْتُمْ" عَلى كَوْنِها مَقُولًا لـ "قال".
وقال أَبو البَقاءِ: الأقوى هنا أن تكون "غَيْرَ" اسْتِثْناءً في المَعنى، وهي مفعولٌ ثانٍ ل "تزيدونني"، أي: فما تَزيدونَني إلَّا تَخْسيرًا. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "غيرَ" صِفَةً لِمَفعولٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: شَيْئًا غَيْرَ تَخْسيرٍ، وهو جيِّدٌ في المَعْنى. ومعنى "التَفْعيلِ" هُنَا النِسْبَةُ، والمَعْنى: غَيْرَ أَنْ أُخْسِرَكم، أيْ: أَنْسِبَكم إلى التَخْسيرِ. وقيلَ: هوَ عَلى حَذْفِ مَضافٍ، أيْ: غيرَ بِضَارِّهِ تَخْسِيركم، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالتَّخْسِيرُ، مَصْدَرُ خَسِرَ، إِذَا جعله خاسرًا.