مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ
(55)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {مِنْ دُونِهِ} هو تتِمَّةٌ لقولِهِ ـ سبحانَهُ، في الآيَةِ التي سَبَقَتْها: {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} من دونهِ: أَيْ: ما تُشركون مِنْ دُونِ اللهِ تعالى.
قولُهُ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أيْ: فدبِّروا لي ما كلَّ ما تسْتَطيعونَ فعلَهُ أَنْتُم وآلِهَتُكم ـ إِنْ كانَتْ حَقًّا آلهةً، واحتالوا لذلك، واستعينوا بما تشاؤون ومن تريدون، فإنِّي مطمئنٌّ إلى حمايةِ ربّي لي وتأييدِهِ ونَصْرِهِ.
قولُهُ: {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} أيْ: ثمَّ أنفذوا مخطَّطاتكم، ومكائدكم التي تتوصَّلونَ إلى إحكامِ حِياكَتِها دونما تباطؤٍ، ولا تُعطوني على ذلك مهْلَةً أبدًا حتى ولا طَرْفَةَ عَيْنٍ واحِدَةٍ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَقْتَضِي اعْتِقَادَ عَجْزِهَا عَنْ إِلْحَاقِ إِضْرَارٍ بِهِ فَرَّعَ عَلَى الْبَرَاءَةِ جُمْلَةَ "فَكِيدُونِي جَمِيعًا"، وَجَعَلَ الْخِطَابَ لِقَوْمِهِ لِئَلَّا يَكُونَ خِطَابُهُ لِمَا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ، فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِأَنْ يَكِيدُوهُ. وَأَدْخَلَ فِي ضَمِيرِ الْكَائِدِينَ أَصْنَامَهُمْ مُجَارَاةً لِاعْتِقَادِهِمْ وَاسْتِقْصَاءً لِتَعْجِيزِهِمْ، أَيْ أَنْتُمْ وَأَصْنَامُكُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ.
وَالْأَمْرُ بِ (كِيدُونِي) مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيزِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَامِ وَبِالنِّسْبَةِ لِقَوْمِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سورة المرسلاتِ: {فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} الآية: 39. وَهَو إِبْطَالٌ لِقَوْلِهِمْ في الآية السابقةِ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ}. والكيدُ إرادةُ مَضَرَّةِ الآخَرِ خِفْيَةً، وهوَ مِنَ الخَلْقِ: الحِيلةُ السَيِّئَةُ، ومِنَ اللهِ التَدْبِيرُ بالحَقِّ، لِمُجازاةِ أَعْمالِ الخَلْقِ؛ أَيْ: إِنْ صَحَّ ما تَفَوَّهْتُم بِه مِنْ كَوْنِ آلِهَتِكم مِمَّا تَقْدِرُ على إِضْرارِ مَنْ يَسُبُّها، ويَصُدُّ عَنْ عِبادَتِها.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ تَحَدَّاهُمْ بِأَنْ يَكِيدُوهُ ثُمَّ ارْتَقَى فِي رُتْبَةِ التَّعْجِيزِ وَالِاحْتِقَارِ فَنَهَاهُمْ عَنِ التَّأْخِيرِ بِكَيْدِهِمْ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِأَصْنَامِهِمْ وَبِهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ.
قولُهُ تعالى: {مِنْ دُونِهِ} مِنْ دُونِهِ: جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المَحْذوفِ مِنْ قولِهِ في الآية السابقةِ: {تُشْرِكُونَ}.
قولُهُ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مَحْذوفٍ، تقديرُهُ: إنْ كانَتْ آلهتُكم كَما قُلْتُمْ مِنْ أَنَّها تَنْفَعُ، وتَضُرُّ فكيدوني، و "كيدوني" فعلٌ أمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، وواوُ الجماعة ضميرٌ مُتَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، وياء المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والنونُ للوقاية، و "جَمِيعًا" حالٌ مِنْ واوِ الفاعلِ، والجُملَةُ الفِعْليَّةُ في محَلِّ الجَزْمِ على كونِها جوابًا للشَرْطِ المَحْذوفِ، والشَرْطُ المحذوفُ في محلِّ النَّصبِ بالقول،
قولُهُ: {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} ثُمَّ: حرفُ عطفٍ للترتيب والتراخي، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تُنْظِرُونِ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لا" الناهية، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ من آخرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ رفع فاعِلِهِ، وياءُ المتكلِّمِ المَحذوفةُ في محَلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ، والنونُ للوِقايةِ لأنَّ أَصْلَهُ، "تُنْظرونَني"، وهذه الجملةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ، عَطْوفًا على الجُملَةِ التي قَبْلَها.
قرأَ جميعُ القرّاء هنا: {فكيدُونِي} بِثُبوتِ الياءِ وصَلًا، ووقفًا، أمَّ في سورة المرسلاتِ، فقد قرأوا جميعًا بِحَذْفها، وأَمَّا التي فِي الأَعْرافِ: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} الآية: 195. فمِنْ ياءاتِ الزَوَائدِ فتحذف وقفًا لا غيرُ وتثبُتُ وتُحذَفُ في الوَصْلِ. وقد قرأَها أبو عمرو: "كيدوني" بإثبات الياء وَصْلاً وَحَذْفِها وَقفًا. وهِشامُ بإثباتِها في الحاليْنِ. وقرأ الباقون بِحَذْفِها في الحاليْنِ، وعَنْ هِشامٍ خِلافٌ مَشْهور فيها.