فيض العليم ... سورة هود، الآية: 39
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
(39)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وَحِينَ يَجِيءُ أَمْرُ اللهِ حَامِلاً إِلَيْكُمْ عَذَابَهُ المَوْعُودَ، فَفِي ذلِكَ اليَوْمِ فَقَطْ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ الذِي سَيَحِلُّ بِهِ عَذَابُ اللهِ الذِي سَيُخْزِيهِ، وَيُذِلُّهُ، فِي الدُّنْيا بِالغَرَقِ، فإنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمونَ اليومَ فائدَةَ ما نَعْمَلُ، وما لَهُ مِنْ عَاقِبَةٍ مَحْمودَةٍ، فَسَوفَ تَعْلَمونَ بَعْدَ تمامِ هِذا العملِ الذي تسخرونَ منه، وهو السفينة، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُذِلُّهُ ويَفْضَحُهُ، ويَجْلِبُ لَهُ العارَ والشَنَارَ، والشقاءَ.
وَالْخِزْيُ: الْإِهَانَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} الآية: 192. والخِزْيَ في الدنيا، وهوَ عَذَابُ الغَرَقِ.
قولُهُ: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} ويَحِلُّ عليْهِ بَعْد ذَلِكَ عَذابٌ دائمٌ في الآخِرَةِ، وكلُّ ما في الدُنْيا من عذابٍ وشقاءٍ فهوَ هيِّنٌ ليِّنٌ في جَنْبِ ما يَكونُ في الآخِرَةِ لانْقِضائهِ وزَوالِهِ، وبَقاءِ ذَاكَ العذابِ ودَوامِهِ. فإنَّ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابٌ دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ "مُقِيمٌ"، وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَيْ فستعلمونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابُ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ الْخَالِدُ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي إِسْنَادِ (الْعِلْمِ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ دُونَ الضَّمِيرِ الْمُشَارِكِ بِأَنْ يُقَالَ: فَسَوْفَ نَعْلَمُ، إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الْأَحَقُّ بِعِلْمِ ذَلِكَ. وَهَذَا يُفِيدُ أَدَبًا شَرِيفًا بِأَنَّ الْوَاثِقَ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ لَا يُزَعْزِعُ ثِقَتَهُ مُقَابَلَةُ السُّفَهَاءِ أَعْمَالَهُ النَّافِعَةَ بِالسُّخْرِيَةِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَسْخَرُوا مِنَ السَّاخِرِينَ.
قولُهُ تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ: إذا عَرَفْتُمْ ما قُلْتُ لكمْ، وأَرَدْتُمْ بيانَ عاقِبَتِنا، وعاقبَتَكُمْ، فأقولُ: "سوف تعلمون"، و "سوفَ" حَرْفُ تَنْفيسٍ وتسويفٍ للاسْتِقبالِ البَعيدِ، و "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "مَن" اسْمٌ مَوْصُولٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ مفعولِهِ؛ و "عَلِمَ" هُنا بِمَعنى "عَرَفَ" فيَتَعَدَّى لِمَفْعولٍ واحِدٍ، ويجوزُ أنْ تكونَ "مَن" اسْتِفْهامِيَّةً فتكونُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ على الابتداءِ، و "يَأْتِيهِ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على الياءِ للثقلِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، و "عذابٌ" فاعلُهُ مرفوعٌ، وجملةُ "يأتيه عذابٌ" خَبَرُ "مَنْ" الاسْتِفهْامِيَّةِ، أو صلةُ الموصولِ فلا محلَّ لها إذا أعربنا "مَن" اسمًا موصولًا، وجُمْلَةُ "مَنْ" الاسْتِفهامِيَّةُ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعولِ "عَلِمَ"، وجُمْلَةُ "تَعْلَمُونَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجوابِ "إذا" المُقَدَّرِةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "يُخْزِيهِ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعهِ مقدَّرَةٌ للثقلِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على "عَذَابٌ" وجُمْلَةُ "يخزيه" في مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِـ "عَذَابٌ".
قولُهُ: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} الواوُ: للعطفِ، و "يَحِلُّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ، و "عَلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "عَذَابٌ" فاعِلُهُ، و "مُقِيمٌ" صِفَةُ "عَذَابٌ" وجُمْلَةُ "يَحِلُّ" مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "يَأْتِيهِ" على أنَّها صِلَةُ "مَنْ" المَوْصولَةِ. ويُقْرَأُ: "وَيحُلُّ" بِضَمِّ الحاءِ، ويقرأُ بِكَسْرِها، وهما بِمَعْنى: ويَجِبُ، حكاهُ الزهراويُّ.