قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(32)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} إذًا بعد أنّْ ردَّ نوحٌ ـ عليه السلامُ، على كلِّ تساؤلاتهم، وفنَّدَ جميع حججهم، وبيَّنَ شبهاتهم، ولم يبقَ لهم ما يحتجونَ به أو يتكلَّمون فيه، قَالَ المَلأُ مِنْ قَوْمِه ردّاً عَلَى مَقَالَتِهِ: لَقَدْ جَادَلْتَنَا يَا نُوحُ فَأَكْثَرْتَ وَحَاجَجْتَنَا فأَطَلْتَ، حَتَّى مْلَلْنا من ذلك، وَلَمْ يَعُدْ لَدَيْنَا شَيءٌ نَقُولُهُ هنالك، وَمع ذلك فلَنْ نَتْبَعَكَ. ووصَفُهُم له بِكَثْرَةِ الْمُجَادَلَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ قَدْ أطال فِي جِدَالِهِمْ وأَكْثَرَ، مما يدلُّ على سَعَةِ صدرِهِ وطولِ صبرِهِ ـ عليهِ السلامُ، وشِدَّةِ حرصِهِ على هدايتهم إلى سبيل الرشادِ، شأنَ الأنبياءِ والمرسلينَ الأمجادِ، صلواتُ اللهِ عليهم وسلامُهُ. وَما أكثرَ الجدلَ ـ نوحٌ عليه السلامُ، حبَّاً في الجدال وإنما هم الذين أكثروا بما طرحوه من أسئلة واستفسارات، وما أثاروه من شبهٍ واعتراضات فما كان له ـ عليه السلامُ، أن يصمِتَ ويتركهم يشيعوا هذه المغالطات بين الناس فيثيروا في نفوسهم الشكوكَ، فما كان ذَلِكَ الْجِدَالُ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ وَفِي إِزَالَةِ الشُّبُهَاتِ حِرْفَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالْجَهْلَ وَالْإِصْرَارَ عَلَى الْبَاطِلِ حِرْفَةُ الْكُفَّارِ. وإلاَّ فإنَّ الجدالَ في غير ما فائدةٍ مذمومٌ منهيٍّ عنه، وَقَدْ وَرَدَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ فِي ذَمِّ الْجَدَلِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ مِنْهَا قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ في التفسير (تفسير سورة الزخرف): 9/130-131، وقال: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيح، ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ـ رضي اللهُ عنه مَرْفُوعًا. وأخرجه الحاكم وصححه. وغيرهم كثير.
والجِدالُ، والمُجادلَةُ: المقابلةُ بما يَفْتِلُ الخَصْمَ مِنْ مَذْهَبِهِ بحُجَّةٍ أوْ شُبْهَةٍ، وهو مِنَ الجَدْلِ، أيٍ شِدَّةِ الفَتْلِ، يُقالُ: جَدَلَ الحَبْلَ إذا فَتَلَهُ بعضَهُ على بعضٍ، وزِمامٌ مَجْدولٌ، وجَديلٌ، وطَعَنَهُ فَجَدَّلَهُ، أَيْ: ألقاهُ على الجَدالَةِ وهِيَ الأرضُ قال أبو قُردُودَةَ الأَعرابِي:
قدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلَهْ ..................... وأَتْرُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
ومنه الأجدلُ: الصَقْرُ لأنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الجَوارِحِ، وقالَ الأَعْشى:
في مَجْدَلٍ شُيِّدَ بُنْيانُهُ ........................... يَزِلُّ عَنْهُ ظُفرُ الطائرِ
ومن المجاز: امْرَأَةٌ مَجْدولَةُ الخَلْقِ: إذا كانت ممتلئةً مكتنزةً، ودِرْعٌ مَجْدولةٌ وجَدلاءُ، أَي: مُحْكَمَةٌ.
قولُهُ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ النَّقْمَةِ وَالعَذَابِ، وَادْعُ عَلَيْنَا بِمَا شِئْتَ، وَلْيَأْتِنَا العَذَابُ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّ اللهَ يُعَاقِبُنا عَلَى عِصْيَانِهِ فِي الدُّنيا قَبْلَ عِقَابِ الآخِرَةِ. وهنا يَظْهَرُ جليّاً جهلُهم وضعفُ عقولهم، ومدى عتوهم عن أمرِ ربهم، {أفبعذابنا يستعجلون؟} اللهُ أكبرُ إنَّ أحدهم لو جرَّبَ أنْ يُقَرِّبَ إصبعه من عودِ ثقابٍ مشتعلٍ ما أطاقَ فكيف يطيقُ ناراً أُوقِدَ عَلَيها النَّارِ ألَفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أوقِد عَليَهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثم أوقِدَ عَلَيْهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ؛ فَهِي سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ المُظْلِم، رواهُ الترمذيُّ مِنْ حديثِ أبي هُريرة ـ رضي اللهُ عنه. وأخرجه غيرُهُ عن غيرِهِ. وَأخرج وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسلمٌ، ومالكٌ، وأحمدٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْث عَن أبي هُرَيْرَة، أيضاً ـ رضي اللهُ عنه، أَن رَسُول اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ((نَارُ بَني آدمَ الَّتِي تُوقدونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعينَ جُزْءً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ)). فَقَالُوا: يَا رَسُول اللهِ إِنْ كَانَتْ لكَافِيَةً. قَالَ: ((فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءً كُلُّهنَّ مِثْلُ حرِّهَا)).
قولُهُ تَعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} قَالُوا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجٌمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "يَا نُوحُ" الياءُ: أَداةُ نِداءٍ لمتوسِّطِ البُعدِ، و "نُوحُ" مُنَادًى مبني على الضمِّ في محلِّ النصبِ بالنداءِ، لأنَّهُ مُفْرَدٌ عَلَمُ، وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصبِ ب "قال". و "قَدْ" للتحقيق، و "جَادَلْتَنَا" فعلٌ ماضٍ مبني على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "نا" ضميرُ متَّصلٌ لجماعةِ المتكلِّمينَ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالُوا" عَلى أنَّهَا جوابُ النِداءِ، و "فَأَكْثَرْتَ" الفاءُ: للعطفِ، و "أكثرتَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ رفعِ فاعلِه، و "جِدَالَنَا" مَفْعولٌ بهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، و "نا" ضميرٌ لجماعة المتكلمين متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجُمْلَةُ معطوفةٌ على جُمْلَةِ "جَادَلْتَنَا". ولها مثلُ مالتلكَ من الإعرابِ.
قولُهُ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَأْتِنَا: الفاءُ: رابطةٌ لِجَوابِ شَرطٍ مُقَدَّرٍ، أو هي الفصيحةُ، أي: إنْ كُنْتَ صادِقًا فأْتِنَا، و "ائت" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ عَلى حَذْفِ حَرْفِ العِلَّةِ من آخرِهِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ وجوباً تقديرُهُ "أنت" يعود على نوح، و "نا" الجماعةِ جماعةِ المتكلمينَ المتَّصلُ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ "فَأَكْثَرْتَ"، و "بِمَا" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعلِّقٌ بِـ "اتِنَا"، فيجوز أن تكونَ "ما" بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أَيْ: تَعِدَنَاهُ. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: بِوَعْدِكَ إيّانا. وقوله: "إنْ كنتَ" جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو "فَأْتِنا". و "تَعِدُنَا" فِعْلٌ مضارعٌ وفاعلُهُ "أنت" مقدَّرٌ، و "نا" مُفعولُهُ الأوَّلُ، والثاني محذوفٌ، تقديرُهُ: تِعِدُناهُ، وهوَ العائدَ على المَوْصولِ، والجُمْلَةُ الفِعليَّةُ صِلَةٌ لِـ "ما" و "إنْ" شَرْطيَّةٌ "كُنْتَ" فعلٌ ناقِصٌ واسْمُهُ في محلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" فعلَ شرطٍ لها، و "مِنَ الصَّادِقِينَ" جارٌّ ومجرورٌ، خبرُهُ، وجوابُ "إِن" تقديرُهُ: إنْ كنتَ مِنَ الصادقين فأْتِنا بِما تَعِدُنا، وجُمْلةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالُوا".
قرأ الجمهورُ: {جِدَالَنَا} وقرأ ابْنُ عبَّاسٍ "جَدَلَنا" كَقولِهِ تعالى في سورة الكهف: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} الآية: 54. ونَقلَ أبو البقاءِ أَنَّه قُرِئَ "جَدَلْتَنا فأَكْثرت جَدَلَنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِما، قالَ: وهوَ بِمَعنى غَلَبْتَنا بالجَدَلِ.