إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
(54)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} إذا فقد ادَّعى قومُ هودٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، بِأَنَّهُ لم يأتهم بآيةٍ بيِّنةٍ تثبتُ نبوَّته، وأصرّوا على تشبثهم بعقيدتهم وعبادةِ آلِهتِمْ، كما تحدَّثت الآيةُ السابقةُ، ولم يكتفوا بذلك بل بادروا هنا لمهاجمتِهِ واتهموه بالجنون، قَائلين: مَا نَظُنُّ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا أَصَابَكَ بِمَسٍّ مِنْ جُنُونٍ وَخَبَالٍ فِي عَقْلِكَ، بِسَبَبِ نَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَتِهَا، وَطَعْنِكَ فِيهَا، فَصِرْتَ تَهْذِي بِهَذَا الكَلاَمِ الغريبِ الذي لا يصدرُ عن عاقلٍ، يقلبُ الأمورَ ويَزِنُ الكلامَ قَبْلَ أَنْ يُطْلِقَهُ على عَواهِنِهِ، فيقعَ في شرِّ أعمالِهِ ويَحْصَدَ نتائجَ تسرُّعِهِ وطَيْشِهِ. لأنَّ ما تقولُه لا يَصْدُرُ إلَّا عَمَّنْ أُصيبَ بشيْءٍ اقتضى خروجه عن قانون العَقْلِ، فلا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لأنَّهُ مِنْ قَبيلِ الخُرافاتِ، والهذيان الذي لا يَتفوَّهُ به إلَّا المَجانِين، فَكَيْفَ نُؤمِنُ بِكَ؟!.
فقد أخرجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ" قَالَ: أَصابَتْكَ بالجُنونِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّه قالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلى ذَمِّ آلِهَتِنَا إِلَّا أَنَّه قَدْ أَصَابَكَ مِنْهَا سُوءٌ.
وَالِاعْتِرَاءُ: النُّزُولُ وَالْإِصَابَةُ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَصَابَكَ بِسُوءٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ أَصَابَتْهُ بِمَسٍّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ بِدَعْوَةِ رَفْضِ عِبَادَتِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى انْتِظَامِ الْحُجَّةِ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُلَفَّقٌ مِنْ نَوْعِ مَا يَصْدُرُ عَنِ السُّفِسْطَائِيِّينَ، فَجَعَلُوهُ مَجْنُونًا وَجَعَلُوا سَبَبَ جُنُونِهِ مَسًّا مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَلِمَ يَتَفَطَّنُوا إِلَى دَخَلِ كَلَامِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْآلِهَةَ كَيْفَ تَكُونُ سَبَبًا فِي إِثَارَةِ ثَائِرٍ عَلَيْهَا. وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَقُولِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي اعْتِقَادَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ.
قولُهُ: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فأجابهم ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِمَا يَدُلُّ على عَدَمِ مُبالاتِهِ بِهم، وعَلى ثِقَتِهِ بِرَبِّهِ، وتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، فهم لا يَقْدِرونَ عَلى شَيْءٍ مما يُريدونَهُ من إيقاعِ الأذى بِهِ، بَلِ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى هُوَ الذي بيده وحده النَفْعُ والضَرَرُ. وقَال لهم: اشْهَدُوا أَنْتُمْ، وَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ رَبِّي عَلَى مَا أَقُولُ، بِأَنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ الذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ.
قولُهُ تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} إنْ: نافيَةٌ، و "نَقُولُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّده عن الناصبِ والجازم، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "نحن" يَعودُ على قومِ هودٍ، والجملةُ هذهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ {قَالُوا} من الجملة السابقة، و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "اعْتَرَاكَ" فعلٌ ماضٍ مبني على الفتحِ المقدَّرِ على آخرهِ لتعذُّرِ ظهورهِ على الألفِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، و "بَعْضُ" فاعلُهُ مرفوعٌ به وهو مُضافٌ، و "آلِهَتِنَا" مضافٌ إليهِ وهو مضافٌ أيضًا و "نا" الجماعة ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْهِ، و "بِسُوءٍ" جارٌّ ومجرورٌ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "اعْتَرَى" وجملةُ "اعْتَرَاكَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: ما نَقولُ في شَأْنِكَ إلَّا قولَنَا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.
قولُهُ: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخرهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على هودٍ ـ عليه السلامُ، وهذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "إِنِّي" حرفٌ ناصِبٌ، ناسخٌ، مشبَّهٌ بالفعل، للتوكيدِ، وياءُ المتكلِّمِ ضَميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ اسمِهِ ونونٌ محذوفةٌ هنا لتوالي ثلاثةِ نوناتٍ هُنَا فالأصلُ إنَّني الأخيرةُ مِنْها للوقايةِ نَظَرًا لأنَّ "إنَّ" حرفٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، فحذِفتِ الوُسْطى من الثلاثة للتَخْفيفِ، و "أُشْهِدُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مسْتَتِرٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنا" يعودُ على هودٍ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ رفْعِ خَبَرِ "إن"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قال"، و "واشْهَدُوا" حرفَ عطفٍ وفعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّ مضارعَهُ من الأفعال الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ، ضميرٌ متَّصلٌ به، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جُمْلَةِ "إنَّي أُشْهِدُ" على كونِها مَقولَ "قال"، و "أَنِّي" مثلُ: "إنَّي" السابقةِ، و" بَرِيءٌ" خبرُهُ مرفوعٌ، و "مِمَّا" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِـ "بريء" وجُمْلَةُ "أنّ" في تَأْويلِ مَصْدَر ٍمَنْصوبٍ عَلى المَفْعولِيَةِ تَنَازَعَ فيهِ الفِعْلانِ قبْلَهُ، ولكنَّ أُعْمِلَ فيهِ الثاني؛ أيْ: واشْهَدوا براءَتي مِمَّا تُشْرِكونَ، و "تُشْرِكُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدهِ من الناصب والجازمِ وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ، والواوُ ضميرٌ الجماعةِ متَصلٌ به في محلِّ رفعٍ فاعلٌ، والجُمْلَةُ هذه، صِلَةُ "ما" إن كانتْ مَوْصولةً أو مصدريَّةً، أوْ صِفَتُها، إن كانت نكرةً موصوفةً، والعائدُ، أَوْ الرابطُ محذوفٌ تقديرُهُ: مِمَّا تُشْرِكونَهُ، ويُحْتَمَلُ كونُ "ما" مَصْدَرِيَّةً، و "مِنْ دُونِهِ" جارٌّ ومَجْرورٌ، في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المَحْذوفِ مِنْ "تُشْرِكُونَ"