إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ
(75)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} يُثْني مَولانَا ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلى نَبِيِّهِ وخَلِيلِهِ إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِأَنَّ فِيهِ ثَلاثَ صِفَاتٍ حَميدَةٍ، أَوَّلُها الحِلْمُ، والْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ هُوَ مَنْ يَحْتَمِلُ الأَذَى، ويَصْفَحُ عَمَّنْ آذاهُ، ولا يَتَعجَّلُ الأُمورَ.
أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: الْحِلْمُ يَجْمَعُ لِصَاحِبِهِ شَرَفَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَلَمْ تَسْمَعِ اللهَ وَصَفَ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحِلْمِ فَقَالَ: "إِن إِبْرَاهِيمَ لَحَليمٌ أَوَّاهٌ مُنيبٌ".
وَأخرج الإمامُ أحمدُ، وأَبُو الشَّيْخ، وابْنُ أبي حاتمٍ، والبيهقيٌّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ ضَمْرَةَ بنِ ربيعَةَ ـ عَنْ رَجَاء بْن ِأَبي سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: الْحِلْمُ ارْفَعُ مِنَ الْعَقلِ، لِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، تَسَمَّى بِهِ.
قولُهُ: {أَوَّاهٌ} الأَوَّاهُ: الذي إذا ذَكَرَ اللهَ تَعالى تَأَوَّهَ، والْأَوَّاهُ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، مِنَ الذُنوبِ والتَأَسُّفَ عَلى النَّاسِ وَهُوَ قَوْلُ: أَوِّهِ. وَأَوِّهِ: اسْمُ فِعْلٍ نَائِبٍ مَنَابَ أَتَوَجَّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ اهْتِمَامِهِ بِهُمُومِ النَّاسِ. أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: الأَوَّاهُ الْمُسَبِّحُ. وأخرج عَنْ كَعْبٍ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ قَالَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ النَّارَ قَالَ: أَوَّهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوَّهْ.
قولُهُ: {مُنِيبٌ} الْمُنِيبُ مَنْ أَنَابَ إِذَا رَجَعَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْبِ وَهُوَ النُّزُولُ. وَالْمُرَادُ التَّوْبَةُ مِنَ التَّقْصِيرِ، أَيْ مُحَاسِبٌ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَحْذَرُ مِنْهُ. وَحَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى الشَّيْءِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ وَتَرْكِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: الْمُنِيب الْمُقْبِلُ إِلَى طَاعَةِ اللهِ. وَأخرج عَنِ ابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْمُنِيبُ إِلَى اللهِ: الْمُطِيعُ للهِ الَّذِي أَنابِ إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قبْلَ ذَلِك. وَأَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْمُنِيبُ المُخْلِصُ فِي عَمَلِهِ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وأخرجَ عَنْه أيضًا قَالَ: اللهُ يُثْنِي عَلَيْهِ: "إنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ" وَالْمُنِيبُ: التَّائِبُ. وأَخرَجَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّهما قالا: المُنيبُ: الْمُخْبِتُ.
ومرجِعُ جميعها إلى سرعةِ التوبةِ من الذنبِ، وسُرعةِ الرُّجوعِ إلى اللهِ تعالى كُلَّما خطرَ للقلبِ غيرُهُ، والإنابةُ دَرَجاتٌ، فلكلٍّ إنابتُهُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ اللهِ تعالى ومَنْزِلَتِهِ عنده. فإنابةُ كلٍّ بِحَسَبِ ذُنُوبِهِ، فإنابةُ أهلِ الكبائرِ، بالرجوعِ عن الكبائر، وإنابةُ أهلِ الصغائرِ بتركِ الصغائر، وإنابةُ أهلِ الذكرِ بالرجوعِ إليه إذا غفلوا عنه، وإنابةُ أهلِ اللهِ بالرجوعِ إليه إذا خطرَ لهم في سواه خاطرٌ، وما للترقّي انتهاءُ.
والمَقْصودُ مِنْ وَصْفِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذِهِ الصِفاتِ المُنْبِئَةِ عَنِ الشَفَقَةِ ورِقَّةِ القَلْبِ، بَيانُ مَا حَمَلَهُ عَلى مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ المُجادَلَةِ، وحَمَلَ الحِلْمَ عَلى عَدْمِ العَجَلَةِ والتَأَنِّي في الشَيْءِ مُطْلَقًا، وجَعَلَ المَقْصودَ مِنَ الوَصْفِ بِتِلْكَ الصِفاتِ، بَيانَ مَا حَمَلَهُ عَلى المُجادَلَةِ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ ذَهابُ الرَّوْعِ، ومَجيءُ البُشْرَى.
قولهُ تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "إِبْرَاهِيمَ" اسْمُ "إنَّ" منصوبٌ بها. و "لَحَلِيمٌ" اللامُ المزحلقةُ للتوكيدِ، و "حَليمٌ" خَبَرٌ "إنَّ" الأوَّل. و "أَوَّاهٌ" خَبَرٌ ثانٍ. و "مُنِيبٌ" خبَرٌ ثالثٌ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، فهي مَسُوقةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَهَا.
و "منيبٌ" اسْمُ فاعلٍ مِنْ أَنابَ الرُّباعِيِّ، وَزْنُهُ "مُفْعِل" بِضَمِّ المِيمِ وكَسْرِ العَيْنِ. وفيهِ إِعْلالٌ بالتَسْكِينِ، أَصْلُه: "مُنْيِبٌ" بِضَمِّ الميمِ وكَسْرِ الياءِ، اسْتُثْقِلَتِ الكَسْرَةُ عَلى الياءِ فَسُكِّنَتْ ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى السَّاكِنِ قَبْلَها فأَصْبَحَ "مُنِيب". وفيهِ إِعْلالٌ آخَرُ بالقَلْبِ أَيْضًا لأنَّ الياءَ أَصْلُها واوٌ فهُوَ مِنْ نابَ يَنُوبُ بِمَعْنَى رَجَعَ، فلَمَّا تَحَرَّكَتِ الواوُ وانْكَسَرَ مَا قبْلَها قُلِبَتْ ياءً.