وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} تَشْبِيهٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْعَاقِبَةِ، أي: وَمِثْلُ ذلِكَ الأَخْذِ بِالعَذَابِ الذِي أَخَذَ بِهِ رَبُّكَ القُرَى الظَّالِمَةَ المُكَذِّبَةَ لِرُسُلِهِ، يَفْعَلُهُ اللهُ بِأَشْبَاهِهِمْ فِي الكُفْرِ وَالعُتُوِّ عَنْ أَمْرِهِ، ففيه وعيدٌ بِأَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ، بَلِ الْحَالُ فِي أَخْذِ كُلِّ الظَّالِمِينَ يَكُونُ كَذَلِك وهوَ إخْبارٌ عَمَّا جَرَتْ بِهِ عادَةُ اللهِ في إِهلاكِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الأُمَمِ. والمُرادُ بالظُلْمِ هُنَا الكُفرُ.
قولُهُ: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} تهديدٌ للكفرةِ بعذابٍ أليمٍ شديدٍ كالذي أخَذَ اللهُ به الأممَ السابقةِ بسببِ كفرهم وعتوِّهم عن أمرِ ربِّهم، ومحارَبتِهمْ أنبياءهُ والمرسلين، فقد أخرجَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ ماجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَيُمْلي للظالِمِ حَتَّى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)). ثمَّ قَرَأَ هذه الآية. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَنْ أَبي عُمْرَانَ الْجُونِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ طُولُ النَّسِيئَةِ وَلَا حُسْنُ الطَّلَبِ فَإِنَّ أَخَذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَذَّرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَطْوَتَهُ بِقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخَذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
قولُهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "كذلك" الكافُ الأُولى: حَرْفُ جَرٍّ للتَشْبيهِ، أَوْ اسْمٌ بِمَعْنَى "مِثْل" في مَحَلِّ رَفعِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ للمُبْتَدَأِ المُؤَخَّرِ "أَخْذُ"، و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ جَرٍّ بالكافِ، مُتَعَلِّقٌ بالمَصْدَرِ "أَخْذُ"، واللامُ للبُعدِ، والكافُ الثانيةُ للخطابِ. و "أَخْذُ" مُبْتَدَأٌ مؤَخَّرٌ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ، و "رَبِّكَ" رَبِّ: اسمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهو مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ، و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ، منصوبٌ على الظرفيَّةِ بالمصدرِ قبلَهُ، وهو مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الظَّرْفِيَّةِ الزَمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بالمصدرِ "أَخْذُ"، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ الظَّرْفُ شَرْطِيًّا والجَوابُ مَحْذوفٌ، أَي: إذا أَخَذَ القُرَى كانَ أَخْذُهُ كَذَلِكَ. و "أَخَذَ " فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على "ربِّكَ" و "الْقُرَى" مَفْعولٌ به منصوبٌ، وعلامَةُ نَصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الألفِ، وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ لِـ "إِذَا"، وكُلٌّ مِنَ المَصْدَرِ والفِعْلِ تَنَازَعَا في "الْقُرَى" فأُعْمَلَ الفِعْلَ، وحُذِفَ الضَّميرُ مِنَ المَصْدَرِ؛ لأنَّ الضَّميرَ هُنَا فَضْلَةٌ على حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ في أَلْفِيَّتِهِ:
وَلاَ تَجِئْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ..................... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفعٍ أُوْهِلاَ
و "وَهِيَ" الواوُ: واوُ الحالِ، و "هي" ضَميرٌ منفصلٌ مَبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ مُبْتَدَأٍ، و " ظَالِمَةٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهذه الجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ "الْقُرَى".
قولُهُ: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} إنَّ: حرفٌ ناسخٌ، ناصبٌ، مشبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ، و "أخذَهُ" اسْمُهُ منصوبٌ بهِ وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ. "أَلِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "شَدِيدٌ" خَبَرٌ لَهُ أيضًا بعدَ خَبَرٍ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ ما قَبْلَها.
قرأَ الجُمهورُ: {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبُّكِ إذا أخذ} على أنَّ "أخْذُ" مصدَرٌ، و "إذا" ظرفٌ لما يُستَقبَلُ مِنَ الزمانِ، وقرأَ أَبُو رَجَاءِ ابْنُ حَيَوَةَ، والجَحْدَرِيُّ: "وكَذَلِكَ أَخْذَ رَبُّكِ إذْ أَخْذَ" على أَنَّ "أَخْذَ رَبُّكَ" فعلٌ وفاعِلٌ، وإذْ الظرفيَّةِ لما مضى الزَّمان. وقَرَأَ طَلْحَةُ بْنَ مُصَرِّفٍ كَذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ بِ "إذا" كالعامَّةِ، وهي قراءةُ مجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "وَكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَىَ بِظُلْمٍ". قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهِيَ قِراءَةٌ مُتَمَكِّنَةُ المَعنَى، ولكنَّ قِراءَةَ الجَمَاعَةِ تُعْطي الوَعيدَ واسْتِمْرارَهُ في الزَمانِ، وهوَ البابُ في وَضْع المُسْتَقْبَل مَوْضِعَ الماضي.
وَأَخرج ابْن أبي دَاوُد عَن سُفْيَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ: فِي قِرَاءَة عبدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كَذَلِك أَخْذُ رَبِّكَ" بِغَيْرِ وَاوٍ.