وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ عظيمةٌ مِنْ جِبْريلَ ـ عليه السَّلامُ، صاحَ بهم صَيْحَةً صاعقةً، فمَاتوا كُلُّهم، وقيلَ أَنَّ اللهَ تَعالى أَحْدَثَها في حَيْوانٍ فصاحَ بِهم. وقِيلَ أَحْدَثَها مِنْ غَيْرِ حَيَوانٍ، وقيلَ: أَتَتْهم مِنَ السَّماءِ صَيْحَةٌ عظيمةٌ فيها صَوتُ كُلِّ صاعِقَةٍ، كتلك التي تُسْمَعُ حين الرعدِ ونزولِ الصَواعقِ، وصَوْتُ كُلِّ شِيْءٍ في الأرْضِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلوبُهم في صُدُورِهم. وقالَ في سورةِ الأَعْراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} فلَعَلَّها وَقَعَتْ عُقَيْبَ الصِيْحَةِ المُسْتَتْبِعةِ لِتَمَوُّجِ الهواءِ.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} يَعْني: صاروا خامِدينَ ميِّتِينَ، فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مَوْتَى جَاثِمِينَ فِي دُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَجُثُومُهُمْ سُقُوطُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْجُثُومُ هُوَ السُّكُونُ يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا بَاتَتْ فِي أَوْكَارِهَا إِنَّهَا جَثَمَتْ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَوْتِ، لأَنَّ الصَيْحَةَ أَخَذَتْهم لَيْلًا فَأَصْبَحوا مِنْها هَلْكَى، لا يَتَحَرَّكونَ، والمُرادُ كونُهم كذلك عِنْدَ ابْتِداءِ نُزُولِ العَذَابِ بِهِمْ، مِنْ غَيْرِ اضْطِرابٍ وحَرَكَةٍ كَما يَكونُ ذلك عِنْدَ المَوْتِ المُعْتَادِ. ولا يَخْفى ما فيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى شِدَّةِ الأَخْذِ وسُرْعَتِهَ، اللَّهُم إنَّا نَعوذُ بِكَ أنْ يَحلَّ عَلَيْنا غَضَبُكَ، أو يَنْزِلَ بِنَا سَخَطُكَ، وأنت أرحمُ الراحمين.
قيلَ: إنَّهم لمَّا رَأَوُا العَلاماتِ التِي بَيَّنَها لهم صَالِحٌ، مِنِ اصْفِرارِ وُجوهِهم في اليومِ الأوَّلِ، واحْمرارِها في اليومِ الثاني، واسْوِدادِها في اليومِ الثالث، عَمَدوا إليه ـ عليه السلامُ، ليَقْتُلوه، ولكنَّ اللهَ نَجَّاهُ منهم إلى أرْضِ فِلَسْطِينَ، ولمَّا كانَ ضَحْوةُ اليَوْمِ الرابِعِ، وهوَ يَوْمُ السَّبْتِ تَحَنَّطُوا وتَكَفَّنُوا بالأَنْطاعِ فَأَتَتْهُمُ الصَيْحةُ فَتَقَطَّعَتْ قُلوبُهم منها فَهَلَكوا.
قولُهُ تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الواو: حرفُ عطفٍ، و "أَخَذَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخِرِهِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ نصْبِ مفعولٍ بهِ. و "ظَلَمُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، وهذه الجُملةُ صِلَةُ المَوْصولِ. و "الصَّيْحَةُ" فاعلُ "أَخَذَ" مَرْفوعٌ، وجملةُ "أخذَ" معطوفةٌ على جملةِ {نَجَّيْنَا} من الآيةِ السابقةِ على كونِها جَوابَ "لمّا". وقد حُذِفتْ تاءُ التأنيثِ مِنْ "وَأَخَذَ الذين" إمَّا لكونِ المُؤَنَّثِ مَجازِيًّا، أَوْ للفَصْلِ بالمَفْعولِ، أَوْ لأَنَّ الصَيْحَةَ بِمَعْنَى الصِّياحِ، و "الصَّيْحَةُ" وزنُها "فَعْلةٌ" وهي تَدَلُّ عَلى حدوثِ الصِّياحِ مرَّةً واحدةً، و "الصيحةٌ": الصوتُ الشديدُ من: صاحَ يَصيح صِياحًا، أَيْ: صَوَّتَ بِقُوَّةٍ.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الفاءُ: عاطِفَةٌ، و "أصبحوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ اسْمِهِ. و "فِي دِيَارِهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ متعلِّقٌ بِـ "جَاثِمِينَ" وضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، و "جَاثِمِينَ" خَبَرُ "أصبحوا" منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، والنونُ عِوَضًا عن التنوين في الاسمِ المفردِ، وجملةُ "أصبح" معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "أخذَ".