وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ
(52)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} بَعْدَ أَنْ أَمَرَ هُودٌ قَوْمَهُ في الآيَتَيْنِ السَّابقتَيْنِ بِعِبادَةِ الإلهِ الواحِدِ الأحدِ دُونَما شَريكٍ، وبَعْدَ أنْ طَمْأنَهمْ بِأَنَّهُ لا مَطْمَعَ لَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِما في أَيْديهمْ مِنْ مَالٍ، ولا بِأَيِّ عَرَضٍ مِنْ أَعْراضِ الحياةِ الدُنْيا، وأَنَّهُ لا يَسْأَلُهم عَلى ما يُبَلِّغُهم مِنْ رِسالَةِ رَبِّهم إِلَيْهم، أَيَّ أَجْرٍ ولا أيَّة مَنْفَعَةٍ، وإنَّما أَجرُهُ على مَوْلاهُ الذي أَرْسَلَهُ، أمرهم هنا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِمَّا أَسْلَفُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَبِإِخْلاَصِ التَّوْبَةِ إِلَيْهِ عَمَّا يَقابِلُونَ بِهِ نِعَمَهُ ـ سبحانَه، مِنْ كُفْرٍ وجُحُودٍ. وقلَ لهم سَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكمْ ما تَقَدَّمَ مِنْ شِرْكِكمْ، "ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ" بَعْدَ تَوْحِيدِه، بِالنَدَمِ على ما مَضَى، وبالعَزْمِ عَلى أَنْ لا تَعودوا لِمِثْلِهِ.
قال الإمامُ الخازِنُ في تَفْسيرِهِ لهذِهِ الآيَةِ: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ"؛ أَيْ: آمِنُوا بِهِ، فالاسْتِغْفارُ هُنا بِمَعْنَى الإيمانِ؛ لأنَّهُ هوَ المَطْلوبُ أَوَّلًا، "ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ" يَعْنِي مِنْ شِرْكِكُمْ، وعِبادَتِكُمْ غَيْرَهُ، ومِنْ سالِفِ ذُنوبِكم. وقال إسْماعِيلُ حَقِّي في تفسيرِهِ "روح البيان": واللَّائِحُ للبَالِ أنَّ المَعنى: اطْلُبُوا مَغْفِرَةَ اللهِ تَعالى لِذُنوبِكُمُ السَّالِفَةِ مِنَ الشِرْكِ، والمَعاصي بِأَنْ تُؤمِنُوا بِهِ، فإنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ أَيْ يَقْطَعُ، ثمَّ ارْجِعُوا إلَيْهِ بالطاعَةِ؛ فإنَّ التَحْلِيَةَ بعدَ التَخْلِيَةِ. وقالَ أَبو بَكْرٍ الأَصَمُّ: اسْتَغْفِروا، أَيْ سَلوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكمْ ما تَقَدَّمَ مِنْ شِرْكِكِمْ ثمَّ تُوبُوا مِنْ بَعْدِهِ بالنَّدَمِ عَلى ما مَضَى، وبالعَزْمِ عَلى أَنْ لا تَعُودوا إلى مِثْلِهِ. وقال ابْنُ كَثيرٍ في تفسيرِهِ: ومَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِفَةِ يَسَرَ اللهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وحَفِظَ عَلَيْهِ شَأْنَهُ وَقُوَّتَهُ.
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ، أَيْ طَلَبُ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا مَضَى مِنْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ عَقِيدَةِ الشّرك، لِأَن اسْتِغْفَارَ اللهِ يَسْتَلْزِمُ الِاعْتِرَافَ بِوُجُودِهِ وَيَسْتَلْزِمُ اعْتِرَافَ الْمُسْتَغْفِرِ بِذَنْبٍ فِي جَانِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ قَبْلَ مَجِيءِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَيْهِمْ غَيْرَ ذَنْبِ الْإِشْرَاكِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُم شَرْعٌ مِنْ قَبْلُ. وَأَمَّا ذَنْبُ الْإِشْرَاكِ فَهُوَ مُتَقَرِّرٌ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ جَمِيعِهَا فَكَانَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ جَامِعًا لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصْرِيحًا وَتَكْنِيَةً.
وَأمَّا التَّوْبَةُ: فهي الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ والعزمُ على عدمِ العودةِ إليهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فيؤولُ ذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْإِشْرَاكِ.
قولُهُ: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَى رَبِّهِ وَاسْتَغْفَرَهُ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَحَفِظَ شَأْنَهُ، وَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِ بِالمَطَرِ المُتَتَابِعِ، و "مِدْرَارًا" مُتَتَابِعًا غَزِيرًا بِلا أَضْرَارٍ. وذَلِكَ أَنَّ بِلاَدَهم كانَتْ مُخْصِبَةً كَثيرَةَ الخَيْراتِ والنِعَمِ، فأَمْسَكَ اللهُ عنهمُ المَطَرَ مُدَّةَ ثلاثِ سِنينَ، فأجْدَبَتْ بلادُهم وقَحَطَتْ بسببِ كُفْرِهم. فقد أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِر عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَمْسَكَ عَنْ عَادٍ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِين فَقَالَ لَهُم هودٌ: "اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارًا: فَأَبَوا إِلَّا تَمَادِيًا.
فقد وَعَدَهم نبيُّهم هودٌ ـ عليهِ السلامُ، أَنَّهم إِنْ آمَنُوا باللهِ وصدَّقوا رَسولَهُ، أَرْسَلَ اللهُ إليْهِمُ المَطَرَ فَأَحْيا بِهِ بِلادَهم، فعادتْ كَما كانت، وإنَّما يعِدُ المرسَلونَ بوعدِ اللهِ لهم، وهذه سنَّةٌ من سننِ الله في خلقه قائمةٌ ما قامت السَمَاواتُ والأَرْضُ، حتى تقومُ الساعةُ، ويرثَ اللهَ الأرضَ بما فيها ومَنْ عَلَيْها، وَرَدَ ذَلِكَ في القرآنِ الكريمِ على لسانِ نبيِّهِ نوحٍ ـ عليها السلامُ، قال في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}. كما جَاءَ ذلك فِي الحَدِيثِ الشريفِ: ((مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ في مسنده: 1/248(2234)، وَأَبُو دَاوُدَ في سُننه: 1518، والنَّسائيُّ في (عملِ اليومِ واللَّيْلَةِ): 456، وَابْنُ مَاجَهْ. من حديثِ عبد الله بنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، وأخرجه البيهقيُّ في السننِ الكبرى والطبرانيُّ في الأوسط.
وعَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ قالَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذي لا إِلَهَ إلَّا هوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأَتوبُ إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنوبُهُ وإِنْ كانَ قدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ)) رَواهُ أبو دَاودَ، والتِرْمِذِيُّ، والحاكِمُ، وقالَ: حديثٌ صَحيحٌ عَلى شَرْطِ البُخاريِّ ومُسْلِم. شَرْحُ رِياضِ الصَّالِحينَ، لِمُحَمَّدِ بْنِ صالحٍ العُثَيْمِينَ: (6/ 714).
وعنْ شَدادِ بْنِ أَوْسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قال: ((سَيِّدُ الاسْتِغْفارِ: أَنْ يَقولَ العبدُ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبّي، لا إِلهَ إِلّا أنتَ، خَلَقْتَني، وَأَنا عبدُك، وَأَنَا على عَهْدِكَ ووَعدِكَ مَا اسْتَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنعْمَتكَ عَليَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبي، فاغْفِر لِي ذُنُوبي، فَإنَّهُ لا يَغْفرُ الذُنوبَ إِلَّا أَنْتَ. مَنْ قالَها مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِها، فماتَ مِنْ يومِهِ قبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فهوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، ومَنْ قَالَها مِنَ اللَّيْلِ وهوَ مُوقِنٌ بِهَا، فمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فهوَ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ)). أَخْرَجَهُ البُخاريُّ، والنَّسائيُّ. والتِرْمِذِيُّ. وَأَخْرَج َابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي المُصَنَّفِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، يَسْتَسْقِي، فَلمْ يَزِدْ عَلى الاسْتِغْفَارِ حَتَّى يَرْجِعَ. فَقيلَ لَهُ: مَا رَأَيْنَاك اسْتَسْقَيْتَ. قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمخادِيجِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثمَّ قَرَأَ: "وَيَا قومِ اسْتَغْفرُوا ربَّكُمْ، ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِدْرارًا" الآية. و {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارًا". الآيتان: 10 و 11 من سورة نوح.
وَ "يُرْسِلِ" الْإِرْسَالُ: بَعْثٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَأَطْلَقَ الْإِرْسَالَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِتَقْدِيرِ اللهِ فَشُبِّهَ بِإِرْسَالِ شَيْءٍ مِنْ مَكَانِ الْمُرْسِلِ إِلَى الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ. وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَصْدَرِهِ. مِنْ ذَلِكَ ما رَوَى البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ في صَحيحيْهما، مِنْ حَديثِ زَيْدِ بْنِ خالدٍ الجُهنيِّ، قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، صَلاةَ بالحُدَيْبِيَةِ عَلى إثْرِ سَمَاءٍ كانَتْ مِنَ اللَّيْلِ. فلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فقال: ((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ))؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).
و "مِدْرارًا" صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدُّرُورِ وَهُوَ الصَّبُّ، أَيْ غَزِيرًا. جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِمْدَادَهُمْ بِالْمَطَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَتْ عَادٌ أَهْلَ زَرْعٍ وَكُرُومٍ فَكَانُوا بِحَاجَةٍ إِلَى الْمَاءِ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ السِّدَادَ لِخَزْنِ الْمَاءِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللهَ أَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ سِنِينَ فَتَنَاقَصَ نَسْلُهُمْ وَرِزْقُهُمْ جَزَاءً عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ هُودًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "يُرْسِلِ السَّماءَ" وَعْدًا وَتَنْبِيهًا عَلَى غَضَبِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَتْ دِيَارهمْ مِنْ حَضْرَ مَوْتَ إِلَى الْأَحْقَافِ مُدُنًا وَحُلَلًا وَقِبَابًا.
قولُهُ: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً مَعَ قوَّتكُم، ويُضاعِفْها لَكُمْ، فقد كَانُوا مُعْجَبِينَ بِقُوَّتِهِمْ حتى قالُوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} سورة فُصِّلَتْ، الآية: 15. لِذَلِكَ وعَدَهمُ اللهُ تعالى بزِيَادَةِ قُوَّتِهِمْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الشِّرْكِ إنْ هُمْ تركوهُ، وذلك بِأَنْ يُكَثِّرَ عَدَدَهم، وَأَنْ يمنَّ عليهم بصِحَّةِ أَجْسَامِهم إضافةً إلى ما وعدهم به مِنْ سَعَةِ أَرْزَاقِهم، فإنَّ ذَلِكَ كلَّه قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ، ويَجْعَلُهَا مستَغْنيةً عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، قَادِرَةً عَلَى حِفْظِ اسْتِقْلَالِهَا، وَيَجْعَلُ أُمَمًا كَثِيرَةً في احْتِياجٍ إِلَيْهَا.
وفي وعدِهِ هذا اسْتِمالَةٌ لَهم إلى الإيمانِ بَعْدَ أنْ أَعْقَمَ أَرْحامَ نِسائِهِمْ، عقوبةً لهم على كفرِهِم بربِّهم وتكذيبهم نبيّهم ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقد كانوا يَهْتَمُّون بِذَلِكَ كثيرًا، ويَفْخَرُون به عَلى النَّاسِ. وقيلَ مَعْناهُ: تَزْدادُونَ قوةً في الدِّينِ إلى قُوَّةِ الأَبْدانِ، وهو بعيدٌ لأنَّهم بعيدون عن فهم هذه القضايا الإيمانَيَّةِ.
رُويَ عَنْ سِبْطِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، سيِّدِنا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّهُ دَخلَ عَلى أميرِ المؤمنينَ مُعاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، فلَمَّا خَرَجَ قالَ لَهُ بَعْضُ حُجَّابِ أميرِ المؤمنينَ: إنّي رَجلٌ ذُو مالٍ ولا يُولَدُ لِي، عَلِّمْني شَيْئًا لَعَلَّ اللهَ يِرْزُقُني وَلَدًا، فقالَ له ريحانةُ النبيِّ ـ عليه وآلِهِ وأصحابهِ الصلاةُ والسَّلامُ: عَلَيْكَ بالاسْتِغْفارِ، فكَانَ يُكْثِرُ الاسْتِغْفارَ حَتّى رُبَّما اسْتَغْفَرَ في يَوْمٍ واحِدٍ سَبْعَ مِئَةِ مَرَّةٍ، فوُلِدَ لَهُ عَشْرُ بَنينَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أمير المؤمنين معاويةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، فَقالَ: هلَّا سأَلْتَه مِمَّن قالَ ذَلِكَ، فجاء مرَّةً أُخْرى فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ، فقالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قوْلَ هُوْدٍ ـ عليه السلامُ: "وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ" وقولَ نُوحٍ ـ عليه السَّلامُ: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}.
وقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ" شِدَّةٌ عَلَى شِدَّتِكُمْ. وَأَخْرَجَ عنهُ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، أَنَّهُ قالَ أَيْضًا: "ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم" قَالَ: وَلَدُ الْوَلَدِ. وقال: الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خِصْبًا إِلَى خِصْبِكُمْ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عِزًّا عَلَى عِزِّكُمْ. وقالَ عِكْرِمَةُ مولى عبد اللهِ بنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: وَلَدًا إِلَى وَلَدِكُمْ.
قولُه: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} التَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ. ومُجْرِمِينَ أَيْ مُتَّصِفِينَ بِالْإِجْرَامِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ قَبُولِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى. أَيْ: وَلا تُعْرِضُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِي ونُصْحِي، فتكونونَ مجرمين، مُصِرِّينَ على الإجرامِ والإشراكِ والآثامِ، وقيلَ: معنى الإجْرامِ كَسْبُ الجُرْمِ ك الإذْنابِ: كَسْبُ الذَنْبِ.
قولُهُ تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الواوُ: عَطْفٍ على {يَا قَوْمِ} في الآية التي قبلها، و "يا" أَداةُ نداءٍ للمتوسِّطِ بُعدُه، و "قومِ" مُنادى مُضافٌ منصوبٌ بالنداءِ عطفًا عَلى المُنادَى الأوَّلِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى ما قَبْلِ ياءِ المتكلِّمِ المَحْذوفَةِ للتَخْفيفِ، والياءُ المَحْذوفَةُ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قالَ"، و "اسْتَغْفِرُوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُونِ من آخره، لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ الفارقةُ، و "رَبَّكُمْ" ولفظُ "رَبَّ" مَفْعولٌ به منصوبٌ وهو مُضافٌ، وكافُ جماعةِ المخاطبينَ المتَّصلُ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ، والجُملةُ الفعليَّةُ هذه، في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قالَ"، عَلى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ، و "ثُمَّ" حرفُ عطفٍ للترتيبِ معَ التَراخي، و "تُوبُوا" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ الفارقةُ، وجملةُ "توبوا" مَعْطوفةٌ على "اسْتَغْفِرُوا"، و "إِلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "توبوا".
قولُهُ: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} يُرْسِلِ: فِعْلٌ مضارعٌ مَجْزومٌ بالطَلَبِ السابِقِ، وقد حُرِّكَ بالكسرِ عرضًا للالتقاءِ الساكنين، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوزًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على "ربكم"، و "السَّمَاءَ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ على حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ماء السماءِ، و "عَلَيْكُمْ" جارٌّ ومجرورٌ، مُتَعَلِّقٌ بِ "يُرسل"، وهذه الجُملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قال" عَلى كَوْنِها جَوابَ الطَلَبِ السابِقِ، و "مِدْرَارًا" حالٌ مِنَ "السَّمَاءَ" منصوبٌ، ولَمْ يُؤَنَّثْ مَعَ كونِ صاحِبِ الحالِ مُؤنَّثًا لأنَّ المُرادَ بِـ "السَّمَاءَ" السَّحابُ أَوْ المَطَرُ، فَذَكَّرَ الحالَ عَلى المَعْنى، أوْ لأَنَّ مِفْعالًا للمُبَالَغَةِ، فَيْسْتَوي فيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، مِثْلُ فَعُولٍ ك "صبور"، و "شكور"، و "فعيل" ك "جريح". أو لأنَّ الهاءَ حُذِفَتْ عَنْ "مفعال" على طريقِ النَسَبِ. و "مدرارًا" هوَ بِنَاءُ تَكْثيرٍ، وكانَ حَقُّهُ أَنْ تَلْحَقَهُ هاءٌ، ولكنْ حُذِفَتْ على نِيَّةِ النَسَبِ، وعَلى أَنَّ "السماءَ" هي المَطَرُ نَفْسُهُ، وهوَ مِنْ دَرَّ، يَدُرُّ؛ و "مِفعال" قد يكون مِنِ اسْمِ الفاعِلِ الذي هو من ثلاثي، ومِنِ اسْمِ الفاعِلِ الذي هوَ مِنْ رُباعِيٍّ: وقولُ مَنْ قالَ: إِنَّهُ أَلْزَمُ للرُباعِيِّ، غَيْرُ لازِمٍ. وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي مِفْعَالٌ مِنْ أَفْعَلَ، وَقَدْ جَاءَ هَهُنَا مِنْ فَعَلَ، لِأَنَّهُ مِنْ دَرَّتِ السَّمَاءُ تَدِرُّ وَتَدُرُّ فَهِيَ مِدْرَارٌ.
قولُهُ: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} وَيَزِدْكُمْ: الواوُ: حرفُ عطفٍ، و "يَزِدْ" فعلٌ مُضَارِعٌ مجزومٌ عَطْفًا عَلى "يُرْسِلْ" والفاعلُ هو "رَبَّكُمْ" أيضًا، وكافُ خِطابِ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأوَّل، و "قُوَّةً" مفعولُهُ الثاني، والجُمْلَةُ مَعطوفةٌ على جملةِ قولِهِ: "يُرْسِلِ السَّمَاءَ"، و "إِلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٍ ب "يَزِدْكم" عَلى التَضْمينِ، أي: يُضِفْ إلى قُوَّتِكم قوَّةً أُخْرى، وقيلَ يجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِصِفَةٍ لِ "قوَّةً" تقديرُهُ: قوَّةً مُضافَةً إلى قُوَّتِكم، وهذا يَأْبَاهُ النُحاةُ لأَنَّهم لا يُقَدِّرونَ إلَّا الكونَ المُطْلَقَ في مِثْلِهِ، أَوْ تُجْعَلُ "إلى" بِمَعْنى مَعَ أَيْ: مَعَ قُوَّتِكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالى في سُورةِ النِّساءِ: {وَلَا تَأْكُلُوا إِلى أَمْوَالِكُمْ} الآية: 2. و "قُوَّتِكُمْ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ.
قولُه: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} وَلَا: الواو: للعطفِ، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تَتَوَلَّوْا" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ هي الفارقةُ، و "مُجْرِمِينَ" حالٌ مِنَ الواوِ، منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ من جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، والنونُ عِوَضًا عنِ التنوينِ في الاسمِ المفردِ، وهذه الجملةُ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على جُمْلة قولِهِ: "ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ" على كونِها مقولَ القولِ.