فيض العليم .... سورة هود، الآية: 104
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} وَمَا يُؤَخِّرُ اللهُ تَعَالَى يومَ الحِسابِ والجَزاءِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، الذي وَصَفَهُ في الآية التي قبلها بأَنَّهُ "يوم الجمع" وبأنَّه "يومٌ مَشْهودٌ" ما يؤخِّرُهُ إِلاَّ لِمَوعِدٍ مُحَدودٍ، وأَمَدٍ مَعْدودٍ، ومُدَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ هي فِي عِلْمِ اللهِ، فلاَ يُزادُ عَلَيْهَا، وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهَا، ولا يَعْلَمُها غيرُهُ وهي مِنَ الأُمورِ التي اسْتَأْثرَ ـ سبحانَهُ، بِعِلْمِها، لقولِهِ تَعالى في سُورَةِ لُقْمانَ: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الآية: 34، ف ال "أَجَل" هوَ جَميعُ المُدَّةِ المُعَيَّنَة، فيُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ التَأْجيلِ كُلِّها وعَلَى مُنْتَهاها، و "معدود" أَيْ: قَليلٌ، أوْ مَعلومٌ محدَّدٌ لا مَجهولٌ ولا مبهَمٍ، والعَدُّ للمُدَّةِ لا لِغايَتِها ومُنْتَهاها، وأَصْلُ المعدودِ الْمَحْسُوبُ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمَضْبُوطِ الذي لَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَتَقَدَّمُ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ يَلْزَمُهُ التَّعَيُّنُ.
وفي الآيَةِ رَدٌّ عَلَى الملحدينَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ والفَلاسِفَةِ الزَّاعِمينَ أَنَّ الدُنيا لا انْقِضَاءَ لِمُدَّتِها. وَالْمَقْصُودُ منها الرَّدُّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ مُسْتَدِلِّينَ بِتَأَخُّرِ وُقُوعِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَقَامِ الْإِلَهِيَّةِ، لذلك بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ تَأْخِيرَهُ إِلَى أَجَلٍ حَدَّدَهُ لَهُ اللهُ تعالى يَوْمِ خَلْقِ الْعَالَمِ، كَمَا حَدَّدَ آجَالَ جميعِ الْأَحْيَاءِ والأشياءِ، وهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سورةِ سبأ: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} الآيتان: 29، 30.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} والواوُ: للاسْتِئْنَافِ، أَوْ عاطفةٌ، و "ما" نافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا، و "نُؤَخِّرُهُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ: "نَحْنُ" يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ، ويعودُ هذا الضَميرُ على "يوم" أو على الجزاء. والجُملةُ مسْتَأْنَفةٌ أو معطوفة على جملةِ {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْموعٌ لَهُ النَّاسُ} وعلى الحالين لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وَقد جاءتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} وَبَيْنَ جملَة {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} الآية التالية: 105. و "إلَّا" أداةُ استثناءٍ مفرَّغٍ، أو أَداةٌ للحَصْرٍ، حَصَرَتِ أَسْبابَ تَأْخيرِ قيامِ يومِ القيامَةِ بانْقِضاءِ الأَجَلِ المحدَّدِ لذلك، و "لأجَلٍ" اللّامُ: حَرْفُ جَرٍّ للتَّوْقِيتِ، وتَدُلُّ على الغَرَضِ والمَقْصِدِ، متعلِّقٌ بالفعلِ "نؤخِّرُ" و "أَجَلٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، و "معدودٍ" صفتهُ مرفوعةٌ مثله.
قرأ الجمهورُ: {نؤخِّرُهُ} بنونِ العظمةِ، وقرأَ الأَعْمَشُ ويَعقوب "يُؤخِّرُهُ" بياءِ الغَيْبَةِ فِيعودُ الضَّميرُ على اللهِ تعالى والمؤدَّى واحدٌ.