الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُه: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} تَعْريفٌ بِبَعْضِ
صِفاتِ الظَّالِمِينَ الْمَلْعُونِينَ الكافرينَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّاسَ أَنْ يُؤمِنوا باللهِ ورَسُولِهِ وَيَصْرِفُونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ دِينُهُ الْقَيِّمُ وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وقد كانَ مِنْ صَدِّهم أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عندَما كانَ يَذْهَبُ داعياً في الحَجِّ القبائِلَ، كانَ يذهبُ منهم وراءَهُ، مَنْ يكَذِّبُهُ ويُنَفِّرُهم مِنَ الإسلامِ كَأَبي لَهَبٍ، وأَنَّ الأَوْسَ والخَزْرَجَ عِنْدَما اسْتَجابوا للنبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانوا يَلْتَقونَ بِهِ عَلى اسْتِخْفاءٍ مِنْهم، وفي سِرٍّ لَا إِعْلانَ فيهِ، وهَمْ يَتْبَعونَهم كلَّما عَلِمُوا باجْتِماعِهِمْ بِهِ.
ورُوِيَ عَنِ السُدِّيِّ أَنَّ سبيلَ اللهِ هو رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله: {الَّذينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} قال: هُوَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَدَّتْ قُرَيْشٌ عَنْهُ النَّاسَ. ولا تَعَارُضَ في ذلك فإنَّ رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هو الدالُّ عَلى اللهُ، وسُلُوكُهُ هوَ السَبِيلُ المُوصِلَةُ لِرِضاهُ ـ سبحانَهُ وتعالى.
قولُهُ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ تَكُونَ عَوْجَاءَ بِمُوَافَقَتِهَا لِأَهْوَائِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَإِبَاحَةِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ فهم يَسْعَوْنَ لأَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً، بِأَنْ يَلينَ مَعَهم في عِبادَةِ الأَوْثانِ وتَحْريمِ مَا أَحَلَّ اللهُ، أَوْ يُريدونَ ويَبْغونَ أَنْ يَكونَ أَتْباعُهُ مُعْوَجِّينَ مُنْحَرِفينَ عَنِ الحَقِّ وأَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ دِينِهِم، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ أنَّهم يَصِفُونَهَا بِالْعِوَجِ وَالِالْتِوَاءِ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهَا، وليس بالغريبِ أنَّهم يجمعون بين النَّقيصَتَيْنِ. وَأَخرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن أَبي مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ويَبْغونَها عِوَجاً" يَعْنِي يَرْجون بِمَكَّةَ غيرَ الإِسْلامِ دِيناً.
قولُهُ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وَيَكْفُرُونَ بِالآخِرَةِ، وَيُكَذِّبُونَ بِوُقُوعِهَا. ولا يُؤْمِنُونَ بِبَعْثٍ وَلَا جَزَاءٍ، وَإِنَّمَا الدِّينُ عِنْدَهُمْ رَابِطَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَشَعَائِرُ قَوْمِيَّةٌ، قَدْ يَتَعَصَّبُونَ لَهَا تَعَصُّبَهُمْ لِقَوْمِيَّتِهِمْ، وَتَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ، وَهَكَذَا شَأْنُ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، الْمُدَّعِينَ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا تَرَاهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الَّذِينَ: اسمٌ موصولُ في محلِّ جَرِّ صِفَةٍ لـلظَّالِمِينَ، مِنَ الآيَةِ السَّابِقَةِ، و "يَصُدُّونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وفاعِلُهُ الواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ، و "عَنْ سَبِيلِ اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "يَصُدُّون"، ولفظُ الجلالةِ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يَبْغُونَهَا: الواوُ للعطفِ، و "يَبْغونَ" مثلُ "يَصُدُّون" معطوفٌ عليَه وله مثلُ إعرابه، والهاء: في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ بِهِ و "عِوَجًا" حالٌ مِنَ الهاءِ في "يَبْغونَها".
قولُهُ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وَهُمْ: مُبْتَدَأٌ، و "بِالْآخِرَةِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "كَافِرُونَ"، وَ "هُم" تَوكيدٌ لَفْظِيٌّ، و "كَافِرُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ وعلامةُ رفعهِ الواوُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ والنونُ عوضاً عن التنوين في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَصْبِ على الحالِ مِنْ واوِ "يَصُدُّونَ".