فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
قولهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} فلَمَّا انْقَضَتِ المُهْلَةُ التي أَعْطاها نَبِيُّ اللهِ صالحٌ ـ عليه السلامُ، لِكَفَرَةِ قومِهِ مِنْ ثَمُودَ، وهيَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ كما سَبَقَ ذِكْرُهُ في الآيةِ السابقةِ، وحانَ مَوْعِدُ نَفَاذِ أَمْرِ اللهِ فيهم، ونُزولِ عَذَابِه عَلَيْهِم، وهلاكِهم جرّاءَ ما كفروا بِرَبِّهم وكَذَّبوا رَسُولَهُ إليهم. وأَمْرُ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، قَضاؤُهُ وقَدَرُهُ، وحُكْمُهُ عَلَيْهِم بالهَلاكِ، لأنَّ وَعْدَهُ وأَمْرَهُ لا يَجِيءُ، وإنَّما يجيءُ ما يأْمُرُ بِهِ ويوعِدِ، وهوَ العذابُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} هِيَ سنَّةُ اللهِ في الأممِ التي ينزلُ بها العذابُ، أَنْ ينجيّ اللهُ مِنْهُ رسولَهُ ومَنْ كانَ آمنَ معهُ، لتظهرُ مزيَّةُ الإيمانِ باللهِ تعالى وتصديقِ رُسُلِهِ، وهوانُ الذين تكبروا وعَتَوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهم. وقيلَ كان عددُ المؤمنينَ أَلْفَيْنِ وثَمانَ مِئَةٍ، وقيلَ كانوا أَرَبَعَةَ آلافٍ بَيْنَما كان عَددُ الكافرين أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، واللهُ أعلم.
قولُهُ: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذْ} وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَجَى إنَّما نَجَى بِرَحْمَةِ اللهِ تَعالى وفضلِهِ لا بِعَمَلَهِ، لأنَّ اللهُ حضرةُ إطلاقٍ فلا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، حتَّى لا يعتمدَ المؤمنِ على شيءٍ غير رحمة ربِّهِ، ولا يؤمِّلَ شيئًا من نفعٍ مِنْ سِواهُ، فلوا أنَّه شاءَ أنْ يهلك الجميعَ لما كانَ لأحدٍ أنْ يعترضَ على ذلكَ. و "نَجَّيْناهم منْ خِزْيِ يَومِئِذْ"؛ أَيْ: مِنْ ذِلَّتِهِ ومَهَانَتَهِ وفَضِيحَتِهِ، ولا خِزْيَ أَعْظَمُ مِنْ خِزْيِ مَنْ كانَ هَلاكُهُ بِغَضَبِ ربِّهِ وانْتِقامِهِ مِنْهُ لتمرُّدِه على خالِقِهِ ومَولاهِ وسوءِ أَدَبِهِ مَعَه.
قولُه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أَيْ أَنَّ القَوِيَّ في بَطْشِهِ، العزيزَ في مُلْكِهِ، الذي لا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، ولا يَقْهَرُهُ قاهِرٌ، فهو يغلبُ ولا يُغلَبُ ويقهُرُ ولا يقهَّرُ، والذي هو قائمٌ بنفسِهِ ومستغنٍ بنفسِهِ، والجميعُ خلقُهُ وهم في حاجةٍ إلى إيجادِه وإمدادِهِ وفضلِهِ، فهو اللهُ القويُّ وما عداه الضعيفُ، وهو اللهُ العزيزُ وما سواهُ الذليلُ، فالقويُّ مَنْ هو قواهُ، والعزيزُ من هو أعزَّهُ، والغنيُّ من أغناهُ هو بفضلِهِ ومن فضلِه، وليسَ لأحدٍ من يَدٍ عليه ولا عندهُ، يتفضلُ على منْ يشاءُ بمحضِ إرادته، ويخصُّ من يشاءُ برحمته ـ سبحانَه وتعالى.
قولهُ تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} الفاءُ: الفَصيحةُ لأنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، تَقْديرُهُ: إذا عَرَفْتَ ما قالَ لَهُمْ صَالِحٌ، وأَرَدْتَ بَيانَ حالِ المُؤْمِنينَ بِهِ، وحالَ المُكَذِّبينَ لَهُ، بَعدَ ما جاءَ العَذَابُ فَأَقولُ ...، و "لمَّا" ظَرْفٌ بِمَعْنى "حِينِ" مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَرْطِ مُتَعَلِّقٌ بِ "نَجَّيْنا". و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "أَمْرُنَا" فاعلُهُ مرفوعٌ به وهو مضافٌ، و "نا" ضميرٌ المعظِّمِ نفسَهُ مُتَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لمّا".
قولُهُ: {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} نَجَّيْنَا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "صَالِحًا" مفعولُهُ منصوبٌ به، والجملةُ جَوابُ "لما"، وجُمْلَةُ "لمّا" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ إذا المُقَدَّرَةِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ في محلِّ نصبٍ عَطْفًا عَلى "صَالِحًا". و "آمَنُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، وجملةُ "آمنوا" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذين" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "مَعَهُ" جارٌ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِـ "آمَنُوا" أَوْ بِـ "نَجَّيْنَا". و "بِرَحْمَةٍ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَجَّيْنَا". و "مِنَّا" جارٌ ومجرورٌ متَعلِّقٌ بصِفَةٍ لِـ "رحمةٍ".
قولُهُ: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} "وَمِنْ خِزْيِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِمَحْذوفٍ تَقديرُهُ: و "نَجَّيْناهم" وذَلِكَ المَحْذوفُ مَعْطوفٌ عَلى "نَجَّيْنَا" الأوَّل، وقالَ بعضُهم: إنَّهُ مُتَعلِّقٌ بِـ "نَجَّيْنَا" الأَوَّل، والواوُ: زَائدَةٌ، أي: ونجَّينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمةٍ منا من خزيِ يومئذ، وهذا غيرُ جائزٍ عندَ البَصْرِيّينَ ـ ما عدا الأخفش، لأنَّ زيادَةَ "الواوِ" غيرُ ثابِتَةٍ. و "خِزْيِ" مُضافٌ، و "يَوْمِئِذٍ" يومِ: مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ وهو مُضافٌ، و "إذ" اسْمٌ ظَرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى السُكُونِ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، والتَنْوينُ هُوَ تَنْوينُ العِوَضِ مِنْ جُمْلَةٍ مَحْذوفَةٍ، مُضافٌ إِلَيْهِ.
قولُه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "رَبَّكَ" اسُمُهُ منصوبٌ به، وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه. و "هُوَ" ضَميرُ فَصْلٍ، يفيدُ التأكيدَ، و "الْقَوِيُّ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ، و "الْعَزِيزُ" صِفَتُهُ، أو "هو" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ القَوِيُّ، والجُمْلَةُ الاسِمْيَّةُ هذه في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" على الحالينِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلٌّ لها.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {يومِئِذٍ} بِخَفْضِ المِيمِ. وقَرَأَ نافِعٌ والكِسَائِيُّ "يَوْمَئِذٍ" بِفَتْحِها على أَنَّها حَرَكَةُ بِنَاءٍ لإِضافتِهِ إلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ كما في قولِ النابغةِ:
على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا..فقلتُ أَلَمَّا أَصْحُ والشَيْبُ وازِعُ
والشاهدُ فيه إِضافةُ "حين" إلى الفِعْلِ وبِنَائِهَا مَعَهُ عَلى الفَتْحِ، فقد خَرَّجوا هذِهِ القراءةَ عَلى أَنَّ "يومَ" مَنْصوبٌ عَلى الظَرْفِ، وهوَ مُتَعَلِّقٌ في الحَقيقَةِ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ. وقرأَ طَلْحَةُ وأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ بِتَنْوينِ "خِزْيٍ" و "يَوْمَئِذٍ" نَصَبَ على الظرفِ بالخَزْيِ.