أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} مَعْنَى افْتَرَاهُ: اخْتَلَقَهُ وَافْتَعَلَهُ وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَالْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي جاءَهُ بِهِ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ ربِّهِ فبَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ. والمَعْنِيُّ بالخِطابِ ـ كما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَباَّسٍ ـ رَضِيَ الله عَنْهٌما، هو نوحٌ ـ عليهِ السلامُ، ومعناهُ: بَلْ أَيَقولُ قومُ نُوحٍ إنَّ نُوحاً افْتَرى ما جَاءَ بِهِ مُسْنِدًا إيَّاهُ إلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وقالَ مُقاتلُ بْنُ سُلَيْمانٍ ـ رضي اللهُ عنه: هو مُحَمَّدٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، فيكون المَعْنَى: بَلْ أَيَقُولُ مُشْرِكو مَكَّةَ افْتَرى رسُولُ اللهِ ـ صَلِّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، خَبَرَ نُوحٍ، فَكأنَّهُ إنَّما جَيءَ بِهِ في تَضاعِيفِ القِصَّةِ عِنْدَ سَوْقِ طَرْفٍ مِنْها تَحْقيقاً لِحَقِّيَّتِها وتَأْكيدًا لِوُقوعِها وتَشْويقًا إلى اسْتِماعِها، لا سِيَّما وَقَدْ قُصَّ مِنْها طائفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِما جَرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ قومِهِ مِنَ المُحاجَّةِ.
وفي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ دَفْعُ شُبْهَةٍ مِنْ شُبَهِ مُشْرِكِيّ قُرَيْشٍ الذينَ ادَّعَوْا أَنَّ مُحمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدِ افْتَرَى خَبْرَ نُوحٍ، وَجَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نفسِهِ، فهوً يَفْتَري هذا القَصَّ، فأَمَرَ اللهُ نَبِيَّه ـ عليه الصلاةُ واللامُ، أَنْ يُعْرِضَ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، إذْ أُتُوا بِهِ وأُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ، ولكنْ لَمْ تُغْنِ فِيهِمْ شَيْئًا، فَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ لَكَانَتْ تَبِعَةُ افْتِرَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ.
قولُهُ: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي: قُلْ لَهُمْ يا رسولَ اللهِ: إِنْ أَكُنْ أَنَا قد افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ فَإِنَّ إِثْمَ ذَلِكَ وَعِقَابَهُ عَلَيَّ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَغْفُلُ عَنْ عُقُوبَةِ مَنْ يَفْتَرِي عَلَيْهِ الكَذِبَ، وَأَنْتُمْ لاَ تَتَحَمَّلُونَ مَعِي شَيْئاً مِنْ ذَنْبِي هذا، فَعَلَيَّ عاقبةُ إِجْرَامِي و عِقَابُ مَا اكْتَسَبْتُهُ مِنْ ذَنْبٍ.
والْإِجْرَامُ: اجْتِرَاحُ الْمَحْظُورَاتِ وَاكْتِسَابُهَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ هو مِنْ بابِ التَجَوُّزِ بالسَبَبِ عَنِ المُسَبِّبِ، وَفِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ عِقَابُ جُرْمِي، وَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا وَكَذَّبْتُمُونِي فَعَلَيْكُمْ عِقَابُ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تعالى في سُورَةُ الزُّمَرِ: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ} الآية: 9. وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَقِيَّةَ من جزيلِ الثوابِ والجزاء من اللهِ تعالى. ولا يَدُلُّ قولُهُ: "إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي" عَلَى أَنَّهُ كَانَ في نفسِ أدنى شَكًّ في ذلك، إِلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ يُقَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنَ قَبُولِ الخَصْمِ المُجادِلِ.
قولُهُ: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أَيْ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ العِقَابِ على جُرائمِكُمْ، كَمَا أَنَّنِي بَرِيءٌ مِنَ الإِجْرَامِ المُتَمَثِّلِ بِكُفْرِكُمْ، وَتَجَاوُزِكُمُ الحَقَّ. وهذه الآية الكريمة مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقِصَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْهَا فَقَدْ أَبْعَدَ، وَهِيَ تَأْكِيدٌ لِنَظِيرِهَا السَّابِقِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ، أَنَّ تَفَاصِيلَ الْقِصَّةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْمُخَاطَبُونَ تَفَاصِيلٌ عَجِيبَةٌ تَدْعُو الْمُنْكِرِينَ إِلَى أَنْ يَتَذَكَّرُوا إِنْكَارَهُمْ وَيُعِيدُوا ذِكْرَهُ. وَكَوْنُ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِمَا حَصَلَ فِي زَمَنِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَام، وأَنَّ شاهدَهُ في كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يبلِّغُ عن ربِّه، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ وَبُعْدِ قَوْمِهِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، آيَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مَنْ خَلْفِهِ.
قولُهُ تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِ "بَلْ" الإضرابية، لِلْإِضْرَابِ ولِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ لِغَرَضٍ، وهَمْزَةُ "أَمْ" هي هُنَا للِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَرْفُ "أَمْ" الْمُخْتَصُّ بِعَطْفِ الِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ. وَمَوْقِعُ الْإِنْكَارِ بَدِيعٌ لِتَضَمُّنِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ. و "يَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وهذه الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، و "افْتَرَاهُ" افترى: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على الألفِ للتَعَذُّرِ، والهاءُ: ضمير الغائبِ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعُودُ عَلى النبيِّ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وقيلَ يَعودُ عَلى نُوحٍ ـ عليْهِ السلامُ، وعليهِ اختُلِفَ في مَعْنى الآية، كما سَبَقَ بيانُهُ، وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ "افتراه" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "يقولون".
قولُهُ: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} قُلْ: فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ الظاهرِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنتَ" يَعودُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَوْ عَلى نُوحٍ النَبِيِّ ـ عليْهِ السٍّلامُ، وهذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "إِنِ" شرطيَّةٌ، و "افْتَرَيْتُهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ مفعولِهِ، و "افْتَرَيْتُهُ" في مَحَلِّ الجَزْمِ بـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِهِ فعلَ شَرْطٍ لَها. و "فَعَلَيَّ" الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ الشَرْطِ، و "عليَّ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَتَقْدِيُمُه مُؤْذِنٌ بِالْقَصْرِ، و "إِجْرَامِي" مَبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ لاشْتِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبةِ لها، وهو مضافٌ وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليها، وهذه الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" كجوابِ شرطٍ لَها، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، بالقولِ.
قولُهُ: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "أَنَا" ضميرٌ منفصلٌ للمُتَكَلِّمِ في محلِّ رفعٍ بالابتِداءِ، و "بَرِيءٌ" خَبَرُهُ، وهذه الجملةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في الخَبَرِ، و "مِمَّا} مِنْ: حرفُ جرِّ متعلِّقٌ بِـ "بَرِيءٌ"، و "ما" اسمٌ موصولٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، و "تُجْرِمُونَ" فعلٌ ماضٍ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ: ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ عل السُكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ، والجُمْلَةُ هذه صِلَةٌ لِـ "ما" لا محلَّ لها من الإعراب، إنْ أُعْربَتْ موصولةً أَوْ صِفَةٌ لَها، إنْ أُعرِبتُ نَكِرةُ موصوفةً، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحذوفٌ تقديرُهَ: مِمّا تُجْرِمونَهُ. وَجُمْلَةُ "وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ" جملةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ. وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَتَأْيِيدُهُ بِمُقَابِلِهِ، أَيْ فَإِجْرَامِي عَلَيَّ لَا عَلَيْكُمْ كَمَا أَنَّ إِجْرَامَكُمْ لَا تَنَالُنِي مِنْهُ تَبِعَةٌ.
قرَأَ الجُمهورُ: {إجْرامي} بكسرِ الهمزة، وهو مصدرُ أَجْرَمَ، ويَجوزُ أنْ يكون "جَرَمَ" ثلاثيّاً وأَنْشَدوا للهَيْرَدانِ السَعْدي، وهو أَحَدُ لُصوصِ بَنِي سَعْدٍ:
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ جُرْمٍ ............... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي
وقُرئ في الشاذِّ: "أَجْرامي" بِفَتْحِها، أي: آثامي، وهو جَمْعُ "جُرْمٍ" كَ "قُفْل" و "أَقْفال".