مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ
(15)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} مَنْ كَانَ يَطْلُبُ الحَيَاةَ الدُّنْيا، وَالتَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِهَا مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَزِينَتَهَا مِنَ الثِّيَابِ وَالأَثَاثِ وَالأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، دُونَ اسْتِعدَادٍ لِلحَيَاةِ الآخِرَةِ بِعَمَلِ البِرِّ وَالإحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِعَمَلِ الطَّاعَاتِ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وهنّادُ وَابْنُ أبي حَاتِم عَن سعيدِ بْنِ جُبَيرٍ ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا" قَالَ: هُوَ الرجلُ يعْمل الْعَمَلَ للدُنيا لَا يُرِيد بِهِ اللهَ. وَأَخرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَعْلَمَ مَا مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ اللهِ فَلْينْظُرْ فِي عَمَلِهِ فَإِنَّهُ قادمٌ على عَمِلِهِ كَائِنًا مَا كَانَ وَلَا عَمِلَ مُؤمنٌ وَلَا كَافِرٌ مِنْ عَمَلٍ صَالحٍ إِلَّا جَاءَ اللهُ بِهِ، فَأَمّا الْمُؤمنُ فيَجْزيهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِمَا شَاءَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فيَجْزيهِ فِي الدُّنْيَا ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا".
قولُهُ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَافيةً تَامَّةً، وَلاَ يُنْقِصُونَ شَيْئاً مِنْ نَتَاجِ كَسْبِهِمْ لأَجْلِ كُفْرِهِمْ، لأنَّ مَدَارَ الأَرْزَاقِ عَلَى الأَعْمَالِ لاَ عَلَى النِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، فَجَزَاءُ الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيا مَنُوطٌ بِأَمْرَينِ: كَسْبِ الإِنْسَانِ، وَقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ. وَأَمَّا جَزَاءُ الآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِلاَ وِسَاطَةِ أَحَدٍ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} الآية: 20، وَكَذَلِكَ قولُهُ في سورة آل عمران: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها} الآية: 145. أَمَّا فِي سُورَةِ الإسراءِ فقد عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ جَلَّ جلالُه بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الْآيَةَ: 18.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} لاَ يُنْقِصُونَ شَيْئاً مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الدُّنْيَا عُجِّلَ لَهُ الثَّوَابُ وَلَمْ يُنْقَصْ شَيْئًا فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ لِأَنَّهُ جَرَّدَ قَصْدَهُ إِلَى الدُّنْيَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ..)). فَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ قَصْدِهِ، وَبِحُكْمِ ضَمِيرِهِ، وقيلَ هُوَ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ، كما رواهُ مسلمٌ فِي صحيحِهِ والترمذيُّ في سُنَنِهِ من حديثِ أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّهُ يُقَالُ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ: (صُمْتُمْ وَصَلَّيْتُمْ وَتَصَدَّقْتُمْ وَجَاهَدْتُمْ وَقرأْتُمْ لِيُقَالَ ذَلِكَ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ) وهؤلاءِ هم (أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يومَ القيامةِ). كما قال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، في بداية الحديث، وهو معروفٌ، قال: ثُمَّ بَكَى أبو هريرة بُكَاءً شَدِيداً ثمَّ قَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تَعَالَى: "مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها". وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جريرٍ وَابْنُ الْمُنْذرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، يَقُول: ((أَوَّلُ مَنْ يُدْعى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لَهُ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزلتُ على رَسُولي؟ فَيَقُول: بلَى يَا رَبِّ فَيَقُولُ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلَّمْتُكَ؟ فَيَقُول: يَا رَبِّ كُنْتُ أَقومُ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتقولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، بَلْ أَردْتَ أَنْ يُقَالَ فلَانٌ قَارِئٌ، فقدْ قيلَ، اذْهَبْ فَلَيْسَ لَكَ الْيَوْمَ عِنْدَنَا شَيْءٌ. ثمَّ يُدْعى صَاحبُ المَالِ فَيَقُولُ اللهُ: عَبْدِي أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْك؟ فَيَقُولُ: بلَى يَا رَبُّ. فَيَقُولُ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ فَيَقُول: يَا رَبِّ كُنْتُ أَصِلُ الْأَرْحَامَ، وأَتَصَدَّقُ، وأَفْعَلُ .. . فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ، بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فلَانٌ جَوادٌ، فقدْ قيلَ ذَلِك، اذْهَبْ فَلَيْسَ لَك الْيَوْمَ عِنْدَنَا شَيْءٌ. ويُدْعَى الْمَقْتُولُ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: عَبدِي فِيمَ قُتِلْتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ فِيكَ، وَفِي سَبِيلِكَ. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: كَذَبْتَ وَتَقولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ بَلْ أَردْتَ أَنْ يُقَالَ فلَانٌ جريءٌ، فقدْ قيلَ ذَلِك، اذْهَبْ فَلَيْسَ لَكَ الْيَوْمَ عِنْدَنَا شَيْءٌ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ الثَّلَاثَة شَرُّ خَلْقِ اللهِ يُسَعَرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَة)).
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِناسٍ بَينَ النَّاسِ إِلَى الْجنَّةِ، حَتَّى إِذا دَنَوْا مِنْهَا اسْتَنْشَقوا رائحَتَها، ونَظَروا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللهُ لأَهْلِهَا فِيهَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَو أَدْخَلْتَنا النَّارَ قبلَ أَنْ تُرِيَنا مَا أَرَيْتَنا مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا أَعدَدْتَ فِيهَا لأوليائكَ، كَانَ أَهْوَنَ. قَالَ: ذَاكَ أَرَدْتُ بِكمْ كُنْتُمْ إِذا خَلَوْتُمْ بارَزْتُموني بالعَظيمِ، وَإِذا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقيتُموهمْ مُخْبِتينَ، وَلم تُجِلُّوني، وتَرَكْتُمْ للنَّاسِ، وَلم تَتَرُكوا إِلَيَّ، فاليومَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ مَعَ مَا حُرِمْتُمْ مِنَ الثَّوَابِ.
وَأخرج ابْنُ جَريرٍ وَأَبُو الشَّيْخ عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، فِي الْآيَة قَالَ: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاء. وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يَنْوِي بِعَمَلِهِ غَيْرَ اللهِ تَعَالَى، كَانَ مَعَهُ أَصْلُ إيمان أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً إِلَّا وُفِّيَ ثَوَابَهَا، فَإِنْ كَانَ مُسْلِماً مُخْلِصاً وُفِّيَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وإنْ كانَ كافراً وُفِّيَ الدُّنْيَا. وهوَ أَلْيِقُ بِقَوْلِهِ تعالى بَعْدَها: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} لأنَّهمُ اسْتَوْفَوا ما تَقْتَضِيهِ صُوَرُ أَعْمالِهِمُ الحَسَنَةِ، وَبَقِيَتْ لَهُمْ أَوْزارُ العزائمِ السَيِّئَةِ. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا في الحياةِ الدُنيا. وَأخرجَ ابْنُ أبي حَاتِمٍ عَن الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي الْآيَة قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ وَابْنُ أبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أنسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَنْ كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا" قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
والآيةُ منسوخةٌ فيما أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي ناسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا: "من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا" أَي ثَوَابهَا، "وَزينتهَا" مَالهَا، "نوف إِلَيْهِم" نُوَفِّرُ لَهُم ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ بِالصِّحَّةِ وَالسُّرُورِ فِي الْأَهْل وَالْمَال وَالْولدِ، "وهم فِيهَا لَا يبخسون" لَا يُنْقَصونَ، ثمَّ نَسَخَهَا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) (الإِسراء الْآيَة: 18) الْآيَة. ورويَ مثلُهُ عَنِ السُدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنه، فيما أَخْرَجهُ عنه أبو الشيخِ.
قولُهُ تَعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} مَن: اسْمُ شَرْطٍ جازِمٍ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، والخبرُ جملةُ الشَرْطِ، أَوِ جَوابُهُ، أَوْ هُما معاً, و "كاَنَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَن" على أنَّهُ فِعْلُ شَرْطٍ لها، واسُمُ "كان" ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ "هو" يعودُ على "مَن".
وزَعَمَ الفَرَّاءُ أَنَّ "كان" زائدةٌ، قال: (ولذلك جَزَمَ جوابَه). ولَعَلَّ هذا لا يَصِحُّ إذْ لَوْ كانتْ زَائدةً لَكانَ "يريدُ" هوَ الشَرْطَ، ولو كانَ شَرْطاً لانْجَزَمَ، فكانَ يُقالُ: مَنْ كان يُرِدْ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أَنَّهُ لا يُؤْتى بِفِعْلِ الشَرْطِ ماضِياً والجزاءِ مُضارعاً إلاَّ مَعَ "كان" خاصَّةً، ولهذا لَمْ يَجِئْ في القرآنِ إلاَّ كذلكَ، وهذا ليسَ بِصحيحٍ لِوُرودِهِ في غَيْرِ "كان" من لك قولُ زُهيْرِ بْنِ أبي سُلمى:
ومَنْ هابَ أَسْبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ .......... ولَوْ رامَ أَسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِوأَمَّا القرآنُ فجاءَ مِنْ بابِ الاتِّفاقِ أَنَّه كَذلك.
و "يُرِيدُ" فعلٌ مضارعٌ ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ يعودُ على "مَن" و "الْحَيَاةَ" مفعولُهُ و "الدُّنْيَا" صفَةُ ـ "الْحَيَاةَ" وجُمْلَةُ "يُرِيدُ" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ "كَانَ"؛ أيْ: مَنْ كانَ مُريدًا الحياةَ الدنيا، و "زِينَتَهَا" عطفٌ على "الْحَيَاةَ" منصوبٌ مثله وهو مضافٌ والهاء في محلِّ جرٍّ بالإضافة.
قولُهُ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} نُوَفِّ: فعلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "مَن" الشَرْطِيَّةِ على أنَّهُ جوابًا لها، وفاعلُهُ ضَميرُ العَظَمةِ يَعودُ على اللهِ "إِلَيْهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والميمُ لجمع الذكور. "أَعْمَالَهُمْ" مُفعولٌ بِهِ مضافٌ والهاءُ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ، والميم لجمع المذكّر، "فِيهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَيضًا، وجُمْلَةُ "من" الشَرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} وَهُمْ: مبتدأٌ، و "فِيهَا" مُتَعَلِّقٌ بالخبرِ الذي بَعْدَهُ، و "لَا يُبْخَسُونَ" لا: نافيةٌ و "يُبْخَسُونَ" فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهول، مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ثُبوتُ النُونِ في آخِرِهِ، و واوُ الجماعةِ في محلِّ رفعِ نائبِ الفاعلِ، وجُمْلةُ "يُبْخَسُونَ" خبرُ المُبْتَدَأِ والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضميرِ في: "أَعْمَالَهُمْ".
وقرأ الجمهورُ: {نُوَفِّ} بِنُونِ العَظَمَةِ، وقرأ طلحة بِنُ مَيْمونٍ: "يُوَفِّ" بالياءِ على الغَيْبَةِ. وقرأ زيدُ بْنُ عَلِيٍّ: "يُوفِ" بالياءِ مُخَفَّفاً مُضارعُ أَوْفى. وقرئ "تُوفَ" بالتاءِ مَبْنِيّاً للمَفْعولِ، و "أعمالُهم" بالرفع، وهو على هذه القراءات مَجزوم جوابَ الشرط كما انجزم في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. وقرأ الحَسَنُ البصريُّ: "نُوفي" بالتخفيفِ وإثباتِ الياءِ، فاحْتَمَلَ أَنْ يَكونَ مَجزومًا بحذف الحَرَكَةِ المُقَدَّرَةِ على لُغَةِ بعض العَرَبِ كما قال قيسُ ابنُ زهير:
ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمَيْ .................... بما لاقَتْ لَبُونُ بَني زيادواحْتًمِلَ أَنْ يَكونَ مَرْفوعًا. على أن ذلك قد يأتي في السَّعَةِ نحو: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} سورةُ يُوسف، الآية: 90، ولأن يكون الفعلُ مرفوعاً لوقوعِ الشَرْطِ ماضِياً كَقولِ جريرٍ:
وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً ........... نقولُ جِهاراً ويَلْكُمْ لا تُنَفِّرواوكقول زهير:
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ ............... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُوقد تقدَّم، وهل الرفعُ لأنه على نيةِ التقديمِ وهو مذهبُ سيبويه أو على نِيَّةِ الفاءِ، كما هوَ مَذْهَبُ المُبَرِدِ؟ خلافٌ مَشْهورٌ.