فيض العليم ... سورة هود ، الآية: 60
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
(60)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أَيْ: أُرْدِفُوا لَعْنَةً تَلْحَقُهُمْ وَتَتبعهم وتَصْحَبُهم، أَيْنَما حَلُّوا في الدنيا وتطاردُهم حَيْثُما ذَهَبُوا، وَاللَّعْنَةُ: هِيَ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَالطَّرْدُ بِإِهَانَةٍ وَتَحْقِيرٍ. فقد جُعِلَتِ اللَّعْنَةُ لازِمَةً لَهم لا تُفارقُهم، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بالتَبَعِيَّةِ للمُبالِغَةِ فكأنَّها لا تنفكُّ عنهم وإنْ ذَهَبوا كلَّ مذهبٍ، بَل تَدورُ معهم حَيثُما داروا، وَقَرَنَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَهْوِينِ أَمْرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَعْنَةِ الْآخِرَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
مَتَّى يَأْتِ هَذَا الْمَوْتُ لَا يُلْفِ حَاجَةً ... لِنَفْسِيَ إِلَّا قَدْ قَضَيْتُ قَضَاءَهَا
ذَلك لأنَّهم اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فأُتْبِعُوا في الدُّنْيَا لَعْنَةً مِنَ اللهِ وَمِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّمَا ذُكِرُوا وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الأشهاد أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ، الآية. وقَالَ السُّدِّيُّ ـ رضي اللهُ عنه: مَا بُعِثَ نَبِيٌّ بَعْدَ عَادٍ إلَّا لُعِنُوا عَلى لِسانِهِ. أَخْرَجَهُ عنه ابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخ.
وَإِتْبَاعُ اللَّعْنَةِ إِيَّاهُمْ مُسْتَعَارٌ لِإِصَابَتِهَا إِيَّاهُمْ إِصَابَةً عَاجِلَةً دُونَ تَأْخِيرٍ كَمَا يُتْبَعُ الْمَاشِي بِمَنْ يَلْحَقُهُ. وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ حُسْنًا مَا فِيهَا من الْمُشَاركَة وَمن مُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْمَلْعُونِينَ فَأُتْبِعُوا بِاللَّعْنَةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ اتَّبَعُوا لِلْمَجْهُولِ إِذْ لَا غَرَضَ فِي بَيَانِ الْفَاعِلِ، وَلَمْ يُسْنَدِ الْفِعْلُ إِلَى اللَّعْنَةِ مَعَ اسْتِيفَائِهِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ إِتْبَاعَهَا لَهُمْ كَانَ بِأَمْرٍ فَاعِلٍ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا تَبِعَتْهُمْ عِقَابًا مِنَ اللهِ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ.
قولُهُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: وَلُعِنُوا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا كَمَا لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا، أَيْ أُتْبِعوا يَومَ القِيَامَةِ أَيْضًا لَعْنَةً، وهيَ عَذابُ النَّارِ المُخَلَّدُ، فقد أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة" قَالَ: لَعْنَةً أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي الْآيَة قَالَ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِم لَعْنَتانِ مِنَ اللهِ، لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا ولَعْنَةٌ فِي الْآخِرَة.
وقد حُذفَتْ فلم يقل: ويومَ القيامة لعنةً، لدَلالَةِ أَوَّلِ الآيةِ عليها، ولأنَّ اللعنَتَيْنِ من نَوعٍ واحِدٍ، بينما قال في سورة الأعراف: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَة} الآية: 156. لاخْتَلافِ نَوْعَيْ الحَسَنَتَيْنِ، فإنَّ المُرادَ بحَسَنَةِ الدنيا الصِّحَّةُ والكَفافُ والتَوْفيقِ للخَيْرِ، وبحَسَنَةِ الآخرَةِ الثَوابُ والرَّحْمَةُ ونعيمُ الجَنَّةِ والنَّظَرِ إلى وجههِ الكريم.
قولُهُ: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أَيْ: كفروا بِرَبِّهم، أوْ بنِعْمَةِ رَبِّهم، حمْلًا لَهُ على نَقيضِهِ الذي هو الشُكْرُ، أوْ جَحَدوهُ، فبَيَّنَ السَّبَبَ الْأَصْلِيَّ فِي نُزُولِ هَذِهِ اللعنةِ بِهِمْ فَقَد كَفَرُوا رَبَّهُمْ. وقِيلَ: أَرَادَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فَحُذِفَ الْبَاءُ، وَقِيلَ: الْكُفْرُ هُوَ الْجَحْدُ فَالتَّقْدِيرُ: أَلَا إِنَّ عَادًا جَحَدُوا رَبَّهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ كَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ.
وَعُدِّيَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عَصَوْا فِي مُقَابَلَةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ، أَيْ نِعْمَةُ رَبِّهِمْ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكُفْرِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تَتَعَدَّى إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ. وقد افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِتَهْوِيلِ الْخَبَرِ وَمُؤَكَّدَةٌ بِحَرْفِ إِنَّ لِإِفَادَةِ التَّعْلِيلِ بِجُمْلَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِيَعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ عَادًا.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمٍّ لَهُمْ. واللَّعْنُ هُوَ الْبُعْدُ، فَلَمَّا قَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: أَلا بُعْداً لِعادٍ. وَالْجَوَابُ: التَّكْرِيرُ بِعِبَارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّأْكِيدِ. وقال: لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ. لأنَّهُ كَانَ عَادٌ عَادَيْنَ، فَالْأُولَى: الْقَدِيمَةُ هُمْ قَوْمُ هُودٍ، وَالثَّانِيَةُ: هُمْ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ. وَقيلَ إِنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّنْصِيصِ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ. وَالْبُعْدُ الْهَلَاكُ. وَالْبُعْدُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْخَيْرِ. يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا إِذَا تَأَخَّرَ وَتَبَاعَدَ. وَبَعِدَ يَبْعَدُ بَعَدًا إِذَا هَلَكَ، قَالَت الخِرْنِقُ بِنْتُ عَفَّانَ مِنْ بَنِي قيس تَصِفُ قومَها بالظُهورِ على العَدُوِّ، ونَحْرِ الجُزُرِ للأضيافِ، والمُلازَمَةِ للحَرْبِ والعِفَّةِ عَنِ الفَواحِشِ:
لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ .................... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةِ الْجُزْرِ
النازلونَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ........................... والطيِّبونَ مَعاقِدَ الأُزُرِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَا تَبْعَدَنْ إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْهَلٌ ............ وَكُلُّ امرئ يومًا بِهِ الحالُ زائلُ
و "أَلاَ بُعْدًا لِعَادٍ" دُعاءٌ عَلَيْهم بالهَلاكِ مَعَ كَوْنِهم هالِكينَ، لاسْتِحْقاقهمُ الهَلاكَ الدَمَارَ. وتكريرُ حرفِ التَنْبيهِ، وإِعادةُ "عادٍ" للمُبالَغَةِ في تَفْظيعِ حالِهم، والحَثِّ عَلى الاعْتِبارِ بِقِصَّتِهم.
قولُهُ تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَأُتْبِعُوا: الواوُ: حرفُ عطفٍ، وفعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ رفعٍ نائبُ فاعِلٍ، والألفُ الفارقةُ، و "فِي هَذِهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِ "أُتْبِعوا"، و "هذه" ها: حرْفُ تَنْبيهٍ و "ذِهِ" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ جَرٍّ بحرفِ الجرِّ، و "الدُّنْيَا" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإشارَةِ أوْ عَطْفُ بَيانٍ لَهُ، و "لَعْنَةً" مفعولٌ ثانٍ والأوَّلُ هوَ نائبُ الفاعلِ قبلَ تحويلِه، والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ على جُمْلَةِ {جَحَدُوا} مِنَ الآيَةِ السَّابِقَةِ، و "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ" الواوُ: للعطفِ، و "يومَ" ظَرْفٌ، وهو مضافٌ، و "القيامةِ" مُضافٌ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ مَعلومٍ ممَّا قبلَهُ تَقديرُه: وأُتْبِعوا يومَ القيامَةِ لَعْنَةً على رُؤوسِ الخَلائقِ.
قولُهُ: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} ألا: حَرْفُ استفتاحٍ وتَنْبيهٍ، و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعل للتوكيدِ، و "عَادًا" اسْمُهُ منصوبٌ به، و "كَفَرُوا" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواو الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "رَبَّهُمْ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبين "هم" متَّصلٌ بهِ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خِبَرِ "إنَّ" وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ألا: كسابقتها، و "بُعْدًا" مَصْدرٌ نائبٌ عنِ التَلَفُّظِ بِفعلِهِ تقديرُه: بَعُدوا، و "لِعَادٍ" اللامُ لِبيانِ مَنْ دُعِي عَلَيْهم مُتَعَلِّقةٌ بالمَصْدرِ كَـ "لام" سَقْيًا لَكَ، ورعْيًا لَكَ، و "قَوْمِ" بَدَلٌ مِنْ "عَادٍ" أَوْ عَطْفُ بيانٍ لَهُ وهو مضافٌ، و "هُودٍ" مجرورٌ بالإضافة إليه.