فيض العليم ... سورة هود، الآية: 69
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} قِصَّةٌ جديدةٌ معطوفةٌ على قِصَّةِ هودٍ ـ عليهِ السلامُ، ابْتُدِئتْ بِمَجيءِ مَلائِكَةٍ، مُرْسَلينَ مِنَ اللهِ تَعالى، إِلَى خليلِهِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مُحَمَّلينَ بالبُشْرى بِولاَدَةِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ، وهم في طريقهم إلى قومِ لوطٍ ـ عليه السلامُ، فكانت زيارةُ إبراهيم للبِشارة كالتمهيد لقصَّةِ لوطٍ مع قومِهِ، وهو أسلوبٌ جديدٌ في القَصِّ. أمّا الملائكةُ المرسلون فقد كانوا أربعةً وهو فيما أخرجَ ابْنُ أبي حَاتِم عَن عُثْمَان بْنِ مُحْسِنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ أنَّهم كَانُوا أَرْبَعَة: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيل وإسرافيل ورفائيل ـ عليهمُ السلامُ.
وَالْبُشْرَى: اسْمٌ. لِلتَّبْشِيرِ وَالْبِشَارَةِ، هِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ بعد ذلك: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} سورةُ هود، الآية: 71. لِأَنَّ بِشَارَةَ زَوْجِهِ بِابْنٍ بِشَارَةٌ لَهُ أَيْضًا. وَالْبَاءُ فِي بِالْبُشْرى لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِأَجْلِ الْبُشْرَى فَهِيَ مُصَاحِبَةٌ لَهُمْ كَمُصَاحَبَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا.
قولُهُ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ عَليكَ سَلاماً فَقَالَ: وَعَلَيكم سَلاَمٌ. فجُمْلَةُ قالُوا سَلامًا فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِلْبُشْرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْبُشْرَى، وَإِنَّ مَا اعْتُرِضَ بَيْنَهَا حِكَايَةُ أَحْوَالٍ، وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. أَخْرجَ أَبُو الشَّيْخ عَنْ سعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّه قَرَأَ "قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ"، وكُلُّ شَيْءٍ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: "سَلامًا قَالَ سَلامٌ".
قولُهُ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} فَذَهَبَ سَريعاً فَأَتَاهُمْ بِعِجْلٍ مِنَ البَقَرِ مَشْوِيٍّ (حَنِيذٍ) وَهُوَ مَا يُوجِبُهُ عَليهِ حَقُّ الضِّيَافَةِ لِلنَّازِلِينَ عَلَيهِ. حَنيذٌ: مَشْوِيٍّ عَلَى حِجَارَةٍ مُحَمَّاةٍ فِي حُفْرَةٍ. وَأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "بِعِجْلٍ حَنيذٍ" قَالَ: نَضيجٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِهُ أيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ "حَنيذٍ" قَالَ: مَشْوِيٍّ. وَأَخرَجَ أَبُو الشَّيْخ عَنْهُ، رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ "بِعِجْلٍ حَنيذٍ" قَالَ: سَميطٍ. وَأَخرَجَ عنهُ الطِسْتِيُّ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "بِعِجْلٍ حَنيذٍ" قَالَ: الحَنيذُ النَّضيجُ، مَا يُشْوَى بِالْحِجَارَةِ. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمٌ، أَمَا سَمِعْتَ قَولَ الشَّاعِرِ وَهُوَ يَقُولُ:
لَهُم رَاحٌ وفارَ الْمِسْكُ فيهمْ .................. وشاوهم إِذا شاوا حَنيذُ
والحَنيذُ: المَشْويُّ بالرَّصْفِ في أُخْدودٍ، مِنْ حَنَذْتُ الشَّاةَ أَحْنِذُها حَنْزًا فهيَ حَنيذٌ، ومحنوذَةٌ. وقيلَ: "حَنيذ" بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفَرَسَ، أَيْ: سُقْتُهُ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ وتَضَعُ عَلَيْهِ الجُلَّ في الشَّمْسِ لِيَعْرَقَ.
وَأخرج ابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الضَّحَّاك ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "بِعِجْلٍ حَنيذٍ" قَالَ: الحَنِيذُ الَّذِي أُنْضِجَ بِالْحِجَارَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّة قَالَ: الحَنيذُ الَّذِي شُوِيَ وَهُوَ يَسيلُ مِنْهُ المَاءُ.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} وَلَقَدْ: الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" حَرْفُ تَحقيقٍ. و "جَاءَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، والتاءُ للتأنيثِ، و "رُسُلُنَا" فاعِلٌ مرفوعٌ مضافٌ، و "نا" ضَميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ متَّصلٌ بهِ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليهِ، و "إبراهيمَ" مَفْعولٌ به منصوبٌ، والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "بِالْبُشْرَى" جَارٌّ ومَجرورٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ "أَرْسَلْنَا"؛ أَيْ: حالةَ كَوْنِهم مُتَلَبِّسينَ بالبُشْرَى.
قولُهُ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} قَالُوا: فِعْلٌ: ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا. و "سَلَامًا" مَفْعولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا، تَقْديرُهُ: نَسَلِّمْ عَلَيْكَ سَلامًا، أَوْ: سَلَّمْنَا عَلَيْكَ سَلامًا، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". و "قَالَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى إبْراهيمَ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا. و "سَلَامٌ" مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ محذوفٌ تَقديرُهُ: عَلَيْكُم، أَوْ هو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقديرُهُ: أَمْري؛ أَوْ قَوْلِي: "سلامٌ" والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ".
قولُهُ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتعقيبٍ. و "ما" أنْ تكونَ النافيةَ، وفاعلُ "لَبث" إمَّا ضَميرُ إبْراهيمَ ـ عَلَيْه السَّلامُ، أيْ: فَما لَبِثَ إِبْراهِيمُ، وإنْ جاءَ عَلى إِسْقاطِ الخافِضِ، فقَدَّروا الخافضَ أنَّهُ الباءُ، أو "عن" أوْ "في"، أَيْ: فمَا تَأَخَّرَ في أَنْ جاءَ ...، أوْ: بِأَنْ جاء ...، أوْ عَنْ أَنْ ...، وإمَّا يكونُ الفاعلَ قولُهُ: "أَنْ جاءَ"، والتقديرُ: فَمَا لَبِثَ، أَيْ: ما أَبْطَأَ ولا تَأَخَّرَ مَجيئُهُ بِعِجلِ حنيذٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، ويجوزُ أنْ تكونَ موصولةً بِمَعنى "الذي". وهي في الوجهين الأخيرين مُبْتَدَأٌ، وإنْ جاءَ خَبَرُهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقديرُهُ: فَلُبْثُهُ، أَوْ الذي لَبِثَهُ قَدْرَ مَجِيئِهِ. لكنَّ أن تكونَ نافيةً هو الأَظْهَرُ. و "لَبِثَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح في محلِّ النَّصْبِ بِـ "أنْ" وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على إبراهيمَ ـ عليه السلامُ. و "بِعِجْلٍ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ النصبِ على الحالِ مِنْ فاعلِ "جَاءَ". و "حَنِيذٍ" صفةٌ لِ "عجلٍ"، وجُملةُ "جَاءَ" صِلَةُ "أنْ" المَصدريَّةِ، و "أَنْ" مَعَ صِلَتِها في تأويلِ مَصْدرٍ مَرفوعٍ على الفاعِلِيَّةِ، تقديرُه: فما تأخَّرَ مجيؤهُ بعجلٍ حَنيذٍ، والجُملةُ الفعليَّةُ معطوفةٌ على جملةِ: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ".
قرأ الجمهورُ: {قالَ سلامٌ} وقرأ الأَخوان حمزةُ والكسائيُّ: "قال سِلْم" بِكَسْرِ السِين وسُكونِ اللامِ. ويَلزَمُ بالضرورة سُقوطُ الألفِ فقيل: هما لُغتان كَ "حِرْم" و "حَرام"، و "حِلٍّ" وحَلال، وأنشد عليه لذي الرُّمَّةِ غيلانِ بْنِ عُقبةَ:
مَرَرْنا فقُلنا إيه سِلْمٌ فسَلَّمَتْ .......... كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائحُ
يُريدُ: سَلامٌ، بِدَلِيلِ: فَسَلَّمَتْ. وقيلِ: هو "السِلْم" بالكَسْرِ أَيْ: ضِدُّ الحَرْبِ، ونَاسَبَ ذَلِكَ لأَنَّهُ نَكِرَهم فقالَ: أَنَا مُسالِمُكمْ غَيْرُ مُحارِبٍ لكمْ. قالهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: ووجهُهُ بأنَّه لمَّا امتَنَعوا عن طعامِه وخافَ منهم قالَهُ، أَيْ أَنَا مُسالِمٌ لا مُحارِبٌ لأنَّهم كانُوا لا يَأْكُلونَ طَعامَ مَنْ بينَهم وبَيْنَهُ حَرْبٌ، واعْتُرِضَ بِأنَّه يَدُلُّ عَلى أَنَّ قولَهُ هذا كان بعدَ تقديم الطعام. وقولُهُ سُبْحانَهُ: "فَمَا لَبِثَ أن جاءَ بعجلٍ حنيذٍ" صَريحٌ في خلافِ ذلك، وذَكَرَ الزمخشريُّ في الكَشَّافِ أنَّ حمزَةَ والكِسائيُّ قرآ بِكَسْرِ السِينِ وسُكونِ اللامِ في الموضِعَيْن وهوَ مُخالفٌ للنقلِ في كُتُبِ القراءاتِ. وقرَأ ابْنُ أَبي عَبْلةَ "قال سلامًا" بالنَّصبِ كالأوَّلِ، وعنْه أَنَّه قرَأَ بالرفعِ فيهِما.