وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(29)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} وَأَنَا لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَى نُصْحِي لَكُمْ، وَدَعْوَتِي إِيَّاكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، مَالاً آخُذُهُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ، فأَنَا لَا أَطْلُبُ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مَالًا حَتَّى يَتَفَاوَتَ الْحَالُ بِسَبَبِ كَوْنِ الْمُسْتَجِيبِ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا. وكَأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ لَمَّا نَظَرْتُمْ إِلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَجَدْتُمُونِي فَقِيرًا وَظَنَنْتُمْ أَنِّي إِنَّمَا اشْتَغَلْتُ بِهَذِا الأَمْرِ لِأَخْذِ أَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا ظَنٌّ خاطئٌ منكم فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ السَعَادَةِ بهذا الدِّينِ بهَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ فأنا لا أسأَلُكم أَجْرًا على ذلك، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثمَّ إنَّهُمْ كانوا قد قَالُوا في الآية: 27، السابق: {مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا} إِلَى قَوْلِهِم: {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} لذلك فَقد بيَّنَ لهم ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ ـ سبحانه وتَعَالَى، أَعْطَاهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ النِعَمِ، تميِّزُهُ عنهم، وتُوجِبُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ فهو لَمْ يَسْعَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، لأنَّ مَوْلاهُ أَغْناهُ عَنِ السَعْيِ في طَلَبِها، وَإِنَّمَا سْعَيُهُ فِي الدِّينِ طَلَباً لرضا مولاهُ وخالقِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الدُّنْيَا والتعفُّفُ عن أعراضِها مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ بِاتِّفَاقِ جميعِ العقلاءِ، فَلَعَلَّ هذا هو الْمُرَادُ تَقْرِيرُهُ لحُصُولِ الْفَضلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قولُهُ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} يبدو أَنَّ قَوْمَ نبيَّ اللهِ نوح ـ عليه السلامُ، سَأَلُوهُ طَرْدَ الضُعَفاءِ من المؤمنين والفقراءِ منهم تكبُّراً عليهم وترفُّعا عنهم، وذلك كشرطٍ منهم عليه ليؤمِنوا بِهِ ويَتَّبعوهُ. فقد رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ أَحْبَبْتَ يَا نُوحُ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَاطْرُدْهُمْ فَإِنَّا لَا نَرْضَى بِمُشَارَكَتِهِمْ، فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا" وَقد تقدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ} الآية: 27، السابقة. وهوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ ذلك، وكَانُوا يَقُولُونَ: لَوِ اتَّبَعَكَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ لَوَافَقْنَاهُمْ. ثُمَّ حَكَى تعالى عَنْهُ أَنَّهُ مَا طَرَدَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ هَذَا الطَّرْدِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا هُمْ مُنَافِقُونَ فِيمَا أَظْهَرُوا فَلَا تَغْتَرَّ بِهِمْ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْكَشِفُ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ عِلَّةً فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الطرد وأراد أنهم ملاقوا مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ، فَإِنْ طَرَدْتُهُمُ خاصَمُونِي فِي الْآخِرَةِ أمامَ ربِّ العالمين، وَمِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّا نَجْتَمِعُ فِي الْآخِرَةِ فَأُعَاقَبُ عَلَى طَرْدِهِمْ فَلَا أَجِدُ مَنْ يَنْصُرُنِي. وَلذلك فأنا لاَ أَسْتَطِيعُ طَرْدَ المُؤْمِنِينَ كَمَا طَلَبْتُمْ مِنِّي، اسْتِعْلاءَ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَتَأبِّياً عنَ الجُلُوسِ مَعَهُمْ، فهُمْ سَيُلاَقُونَ رَبَّهُمْ، وَسَيَسْأَلُنِي اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ.
قولُهُ: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} وَإِنِّي لأَرَاكُمْ قَوْماً تَتَجَاوَزُونَ فِي طَلَبِكُمُ الحَقَّ وَالصَّوابَ، إِلَى الجَهْلِ وَالبَاطِلِ، وَلا تًدْرِكُونَ أَنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ فِيهِ الخَلْقُ عِنْدَ اللهِ هُوَ الإِيمَانُ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ، لاَ المَالُ، وَلاَ الحَسَبُ وَلا الجَاهُ. وأَنتم "تَجهلون" أَنَّهم أَفضلَ منكم لإيمانِهم وكفرِكم. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ أَمْرَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِالْعَوَاقِبِ وَالِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ فَقَالَ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
قولُهُ تَعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} وَيَا قَوْمِ: الواوُ: حرفُ عطفٍ، و "يا" أَداةٌ لِنِداءِ مُتَوَسِّطِ البُعدِ، و "قوم" مُنَادَى مَنْصُوبٌ بالنداءِ وعلامةُ نَصبِهِ فتحةٌ مقدَّرةٌ مَنَعَ مِنْ ظُهورِها اشْتِغالُ المَحَلِّ بِالحَركَةِ المُنَاسِبَةِ، وهو مُضافٌ إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ لأَنَّهُ مَوْضِعُ حَذْفٍ، والكَسْرَةُ تَدُلُ عَلَيْها، وهيَ بِمَنْزِلَةِ التَنْوينِ، فحَذَفَتْها كما تُحْذَفُ التَنْوينُ مِنْ المُفْرَد، ويَجوزُ في غيرِ القُرآنِ إِثْباتُها ساكِنَةً فتَقول: يا قومي لأنَّها اسْمٌ، وهِيَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ، وإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَها، وإِنْ شِئْتَ أَلْحَقْتَ مَعَها هاءً فقُلْتَ: يا قَوْمِيَهْ. وإِنْ شِئْتَ أَبْدَلْتَ مِنْها أَلِفًا لأنَّها أَخَفُّ فقلتَ: يا قوْما، وإنْ شِئْتَ قلتَ: يا قومُ بمَعنى يا أيُّها القَوْمُ، وإنْ جَعَلْتَها نَكِرَةً نَصَبْتَ ونَوَّنْتَ، وواحِدُ القَوْمِ امْرُؤ عَلى غَيْرِ اللفْظِ، وتَقولُ: قوْم، وأَقْوام، وأَقاوِم، جَمْعُ الجَمْعِ. وجملةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قال". مَعْطوفٌ على: "وَيَا قَوْمِ" الأوَّلِ، و "لَا" نافِيَةٌ، و "أَسْأَلُكُمْ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تقديرُهُ "أنا" يعودُ على نُوحٍ ـ عليه السلامُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ نصبِ مَفعولِهِ الأَوَّلِ، والميم ُللجمعِ المُذكَّر، و "عَلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "مَالًا" مَفْعولٌ ثانٍ له، وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" على أنَّهُ جَوابُ النِداءِ.
قولُهُ: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} إن: نافِيَةٌ بمعنى "ما"، و "أَجْرِيَ" مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ منع منْ ظُهورِها انشغالُ المحلِّ بالحركة المناسبةِ لياء المتكلِّمِ وهو مضافٌ وياءُ النداءِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، أو أداةُ حصرٍ، و "عَلَى اللهِ" جارٌّ ومَجْرورٌ في محلِّ رفعِ خبرِ المُبْتَدَأِ، وهذه الجُمْلَةُ الاسميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ أيضًا.
قولُهُ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} وَمَا: الواو: عاطفةٌ، و "ما" نافِيَةٌ، و "أَنَا" ضميرٌ منفصلٌ للمتكلِّمِ في محلِّ رفعِ مُبْتَدَأٍ، و "بِطَارِدِ الَّذِينَ" الباءُ حرفُ جرِّ زائدٍ، و "طاردِ" مجرورٌ لفظاً بحرف الجرِّ، مرفوعٌ محلاًّ على أنَّهُ خَبَرُ المبتدأِ وهو مضافٌ، و "الذين" اسمٌ موصولٌ في محلِّ جرِّ مضافٍ إِليْهِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَصْبِ عطْفاً على الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، وهذا على أنَّ "ما" هي التميميَّةُ، ويمكنُ أنْ نعتبرها حجازيةً عامِلَةً عَمَلَ ليْسَ، و "أَنَا" ضميرٌ منفصلٌ في محلِّ رفعِ اسمِ "ما" و "طاردِ" مجرور لفظًا منصوبٌ محلًّا على أنَّهُ خبرُ "ما"، و "آمَنُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِه بواوِ الجماعة، وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجملةُ صلةُ المَوصولِ.
قولُه: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} إِنَّهُمْ: "إنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسخٌ للتأكيدِ مشبَّهٌ بالفعلِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ اسْمِهِ، والميمُ للجمع المذكَّر، و "مُلَاقُو" خَبَرُهُ مرفوعٌ وعلامةُ رفعه الواوُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، وقد حُذِفَتْ منه النونُ لأنَّهُ مضافٌ، و "ربِّ" مُضافٌ إليهِ، والهاءُ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْهِ ثانٍ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر، وجُملةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ" كونِها مُعَلِّلَةً لِما قَبْلِها.
قولُهُ: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} وَلَكِنِّي: الواوُ للعطفِ، و "لكنَّ" نَاصِبٌ ناسخٌ للاسْتِدْراكِ مشبَّهٌ بالفعلِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ اسْمِهِ، و "أَرَاكُمْ" أرى: فِعْلٌ مضارعٌ مُتَعَدٍّ لِمَفْعولَيْنِ لأنَّهُ مِنْ أَفْعالِ القُلوبِ، مُضارِعٌ مَرْفوعٌ وعَلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها عَلى الأَلْفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوباً تقديرُهُ "أنا" يَعودُ على نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مَفعولِهِ الأوَّلُ، والميمُ للمُّذَكَّرِ، و "قَوْمًا" مَفْعُولُهُ الثاني، و "تجهلون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، وجُمْلَةُ "تَجْهَلُونَ" في محلِّ نصبِ صِفَةٍ ل "قَوْمًا" وجُمْلَةُ "أَرَاكُمْ" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "لكنَّ"، وجُمْلَةُ الاسْتِدْراكِ مَعْطُوفَةٌ على مَا قَبْلَها عَلى كَوْنِها مقولَ القولِ.
وقولُهُ: "إِنَّهُمْ مُّلاَقُو" اسْتِئْنافٌ يُفيدُ التَعْليلَ. وقولُهُ: "تَجْهلون" صِفَةٌ لا بُدَّ مِنْها إذِ الإِتيانُ بِهَذا المَوْصوفِ دونَ صِفَتِه لا يُفيدُ، وأَتى بِها فِعْلاً لِيَدُلَّ على التَجَدُّدِ كُلَّ وَقْتٍ.