ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ
(100)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} اسْمٌ إشارةٍ مُبْهَمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْبَعِيدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هاهنا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهِيَ حَاضِرَةٌ، وذلك لوجوه:
ـ أَحَدُهَا: أَنَّ "ذلك" يُشَارُ بِها للقَريبِ والبَعيدِ:
ـ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يَقَصَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْباءِ اللأًمَمِ السابِقَةِ لأُمَّتِهِ فقالَ: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} سورةُ هُود: 120، فقد تكونَ هذه سابقةٌ على تلكَ بالنزول.
ـ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ مِنَ الْمُرْسِلِ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ وَقَعَ فِي حَدِّ الْبُعْدِ، كَمَا تَقُولُ لِصَاحِبِكَ ـ وَقَدْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا، احْتَفِظْ بِذَلِكَ.
ـ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَعُلُومٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَسَّرُ اطِّلَاعُ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهَا بِأَسْرِهَا، وَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا نَظَرًا إِلَى صُورَتِهِ لَكِنَّهُ غَائِبٌ نَظَرًا إِلَى أَسْرَارِهِ وَحَقَائِقِهِ، فَجَازَ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ كَمَا يُشَارُ إِلَى البعيد الغائب. إذًا فإنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، يَقُولُ لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إِنَّ مَا سَبَقَ أَنْ قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ لِتَعِظَ بِهِ قَوْمَكَ مِنْ أَنْبَاءِ الأَنْبِياءِ السَّابِقِينَ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَمَا حَدَثَ لِبِلادِهِمْ فوائدُ جمَّةٌ. وأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ الْكَامِلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ. فَأَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ الدَّلَائِلَ ثُمَّ أَكَّدْتَ بِأَقَاصِيصِ الْأَوَّلِينَ صَارَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَقَاصِيصِ كَالْمُوَصِّلِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ إِلَى الْعُقُولِ. وقد خَلَطَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَقَاصِيصِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَيَذْكُرُ مُدَافَعَاتِ الْكُفَّارِ لِتِلْكَ الدَّلَائِلِ وَشُبُهَاتِهِمْ فِي دَفْعِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُمَا أَجْوِبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهَا ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا وَقَعُوا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَقِيَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنُ وَالْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقَصَصِ سَبَبًا لِإِيصَالِ الدَّلَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ عَنِ الشُّبَهَاتِ إِلَى قُلُوبِ الْمُنْكِرِينَ، وَسَبَبًا لِإِزَالَةِ الْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ أَحْسَنَ الطُّرُقِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الله تَعَالَى هو القَصُّ. وقد كانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، يَذْكُرُ هَذِهِ الْقَصَصَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ كُتُبٍ، وَلَا تَتَلْمَذَ على أَحَدٍ وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ. ومَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْقِصَصَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ أَنَّ عَاقِبَةَ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ وَالْمُنَافِقِ وَالْمُوَافِقِ إِلَى تَرْكِ الدُّنْيَا وَالْخُرُوجِ عَنْهَا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْكَافِرَ يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ عَلَى السَّمْعِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَلِينَ الْقَلْبُ وَتَخْضَعَ النَّفْسُ وَتَزُولَ الْعَدَاوَةُ وَيَحْصُلَ فِي الْقَلْبِ خَوْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
قولُهُ: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} وَمِنْ هذِهِ القُرْىَ وَالبِلاَدِ مَا هُوَ قَائِمٌ لا يزالُ، لم يتداعى ولم يتهدَّمْ، وإنَّما خلا من سكانِه الذين عمروه زمنًا ثمَّ هلكوا عنه وغادروه، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُدَمَّرٌ مَدْكُوكٌ فِي الأَرْضِ، متداعي الأركان، منثورَ البنيانِ، مُلْقًى كَما لو أنَّك حصدتَ قمحًا أو شعيرُا أو غيرَه وأَلقيتَ بهِ على الأرضِ، فهو عَافِي الأَثَرِ كَالزَّرْعِ المَحْصُودِ. وهذا هُوَ القَصَصُ الحَقُّ، الذي أنزلَهُ اللهُ على رسولِهِ، وحَكاهُ لعبادِهِ، وَمَا رَوَيْنَاهُ لَكَ هُوَ الحَقُّ الثَّابِتُ، كَمَا وَقَعَتْ أَحْدَاثُهُ.
قولُهُ تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} ذَلِكَ: "ذا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ مُبْتَدَأٍ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطابِ. و "مِنْ أَنْبَاءِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ في محلِّ رفعِ خبَرٍ أَوَّل، و "الْقُرَى" مُضافٌ إليهِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ المُقدَّرةُ على آخره لتعذُّرِ ظهورها على الألفِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، و "نَقُصُّهُ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "نحنُ: يعودُ عَلى اللهِ تعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ. و "عَلَيْكَ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ ثان ٍللمُبْتَدَأِ.
قولُهُ: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} مِنْهَا: جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، سوَّغَ تقدُّمَهُ كونُهُ جارّا ومجرورًا، و "قَائِمٌ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وهذه الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لِوُقوعِها في جَوابِ سُؤَالٍ تَقديرُهُ: ما حالُ هَذِهِ القُرَى أَبَاقِيَةٌ آثارُها أَمْ لا؟ فأَجابَ بِقَوْلِهِ: مِنْها: قائمٌ ومِنْها حَصيدٌ. و "وَحَصِيدٌ" مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: ومِنْها حَصيدٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ قولِهِ: "مِنْهَا قَائِمٌ".