يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
(98)قولُه ـ تعالى شَأْنُه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَكَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ مَلِكَ قَوْمِهِ وَقَائِدَهُمْ فِي الدُّنْيا، كَذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، فالإقدامُ هو الإقبالُ بالمُواجَهَةِ؛ فأنتَ تقولُ: قَدِمَ عَلَيَّ فلانٌ حِينَ يُقْبِلُ عَلَيْكَ مُواجَهَةً. وتقولُ أَقْدَمَ أي أَقْبَلَ بِشَيْءٍ مِنَ العَزْمِ. ومنه أَقدَمَ الجنديُّ في ساحةِ المعركةِ أي حملَ على عدوِّهِ بقوةٍ وشجاعةِ وعزمٍ، وأقبلَ يتقدَّمُ غيرَهُ إلى لقاء العدوِّ، وفيها أيضًا معنى القيادة، فالجُندُ يَتَقدَّمونَ في اتَّجاهٍ واحدٍ هو جهة العدوِّ، ويتقدَّمُهم مَنْ يَقُودُهم. وفرعونُ كما كان يقودُ قومَه في الدنيا ويتقدَّمهم في المَعَارِكِ وَهم يتَّبِعونَهُ، فهو يَتَقَدَّمُهم يومَ القيامَةِ كذلكَ فَيَقودُهم إلى نارِ جَهَنَّمَ.
قولُهُ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} فيه هُزْءٌ مِنْهم وتَهَكُّمٌ بهم، لأنَّهم إنَّما يَرِدونَ النَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ في حِينِ أَنَّ النَّاسَ يَرِدونَ في العادةِ على ما يَنْفَعُهم وما فيهِ لهم رَاحَةٌ ومُتْعَةٌ، لكنَّ فرعونَ يوردُ ملأه وقومَه النارَ والعذابَ، وهذا جزاءُ كلِّ منْ فقد رشدَه وعصى ربَّهُ وأطاعَ عبدًا مثله واتَّبَعَ غيرَ مولاهُ، وَبِئْسَ المَوْرِدُ الذِي يَرِدُونَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ لإِطْفَاءِ ظَمَئِهِمْ، وَهُوَ المَاءُ الحَمِيمُ، ونار الجحيم، والعذابُ الأليم، بينما يردُ المؤمنون جناتِ النعيم، وعينًا من تسنيمٍ لا يردها إلَّ المقرَّبون، الذين اتبعوا الأنبياءَ والمُرْسَلينَ، بالنور والهداية من ربِّ العالمين، فاجْعَلْنا اللَّهُمَّ مِنْهم بفضلك ومنِّك وكرمك يا رحمنُ يا رحيمُ. وَفِي قَوْلِهِ: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ اسْتِعَارَةُ الْإِيرَادِ إِلَى التَّقَدُّمِ بِالنَّاسِ إِلَى الْعَذَابِ، وَهِيَ تَهَكُّمِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِيرَادَ يَكُونُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِالسَّقْيِ وَأَمَّا تَقَدُّمُ فرعونَ بِقَوْمِهِ إِلَى النَّارِ فَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ.
قولُه تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَقْدُمُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصب والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرهُ "هو" يَعودُ عَلى فِرْعَوْنُ، و "قَوْمَهُ" مَفْعولٌ بهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجُملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى كَوْنِها مُعَلِّلَةٌ لِما قَبَلَها فليس لها محلٌّ مِنَ الإعْرابِ. و "يَوْمَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ متَعَلِّقٌ بِـ "يَقْدُمُ" وهو مضافٌ، و "الْقِيَامَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ.
قولُهُ: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} الفاءُ: للعطفِ، و "أَوْرَدَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ الظاهِرِ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِه الأول، و "النَّارَ" مَفعولُهُ الثاني منصوبٌ به، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ إلى فِرْعَوْنَ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "يَقْدُمُ". و "وَبِئْسَ" الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "بِئْسَ" فعلٌ ماضٍ جامدٍ لإنشاءِ الذَّمِّ، و "الوِرْدُ" فاعلُهُ مرفوعٌ، و "الْمَوْرُودُ" صِفَتُهُ، والمَخْصوصُ بالذَّمِ مَحْذوفٌ وُجوبًا تَقْديرُهُ: وِرْدُهُم هَذا، وهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ "بِئْسَ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ من المبتدأِ المحذوف وخبرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ؛ لأَنَّها إِنْشائِيَّةٌ، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
وَفِي حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ إِيجَازٌ لِيَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا لِإِحْدَى اللَّعْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا بَئِيسٌ.
ويجوزُ أنْ يكونَ "فَأَوْرَدَهُمُ" مِنْ بابِ الإِعْمالِ، وذَلِكَ أَنَّ الفعلَ "يَقْدُمُ" يَصْلُح أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلى "النَّارِ" بِحَرْفِ الجَرِّ، أَيْ: يَقْدُمُ قومَهُ إلى النَّارِ، ويَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَيْها مباشرةً أَيْضًا دونَ حرفِ الجرِّ كما هو الحالُ هنا، فقد أُعْمِلَ الثاني للحَذْفِ مِنَ الأَوَّلِ، ولَوْ أُعْمِلَ الأَوَّلُ لَتَعَدَّى بِ إلى، ولأُضْمِرَ في الثاني، ولا محلَّ لِجملةِ "أَوْرَدَ" لاسْتِئْنافِهِ، والفعلُ "أوردَ" هوَ ماضٍ لفظًا مُسْتَقْبَلٌ مَعنًى؛ لأَنَّهُ عَطَفَ على ما هو نَصٌّ في الاسْتِقْبالِ. والهَمْزَةُ فيه للتَعْدِيَةِ، لأنَّهُ قبْلَها يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. كما في قولِهِ تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الآية: 23 من سورة القصص، وقيلَ: أَوْقَعَ الماضي هُنَا لِتَحَقُّقِ وقوعِهِ. وقيلَ: بَلْ هوَ ماضٍ على حَقيقتِهِ، وهذا قد وقعَ وانْفَصَلَ، وذَلِكَ أَنَّهُ أَوْرَدَهم النَّارَ في الدنيا. قالَ تَعالى في سورة غافر: {النَّارَ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} الآية: 46. وقيلَ: أَوْرَدهُمْ مُوْجِبَها وأَسْبَابَها، وفيهِ بُعْدٌ لأَجْلِ العَطْفِ بالفاءِ التي تفيدُ الترتيبَ.
و يكون الوِرْدُ: مَصْدَرًا بمَعْنى الوُرودِ، ويَكونُ بِمَعْنى الشَّيْءِ المُوْرَدِ، كالطِّحْنِ والرِّعْيِ. ويُطْلَبُ أَيْضًا عَلَى الوارِدِ، وعَلَى هَذَا إِنْ جَعَلْتَ الوِرْدَ مَصْدَرًا أَوْ بِمَعْنَى الوارِدِ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ تَقديرُهُ: وبِئْسَ مَكانُ الوِرْدِ المَوْرُودِ، وهوَ النَّارُ، وإنَّما احْتِيجَ إلى هذا التَقْديرِ لأَنَّ تَصادُقَ فاعلِ نِعْمَ وبِئْسَ ومخْصُوصِها شَرْطٌ، لا يُقالُ: نِعْم الرجلُ الفَرَسَ. وقيلَ: بَلِ المَورودُ صِفَةً للوِرْدِ، والمَخْصوصُ بالذَّمِ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: بِئْسَ الوِرْدُ المَوْرودُ النَّارُ. وقيلَ: التَقْديرُ: بِئْسَ القومُ المَورودُ بِهِمْ هُمْ، فعَلَى هذا "الوِرْدُ" مُرادٌ به الجمعُ الواردونَ، والمَوْرودُ صِفَةٌ لَهم، والمَخْصوصُ بالذَّمِّ الضَّميرُ المَحذوفُ وهو "هم"، فيَكونُ ذَلِكَ للوارِدينَ لا لِمَوْضِعِ الوِرْدِ. وفيهِ نَظَرٌ، إذ كيفَ يُرادُ بالوِرْدِ الجَمْعُ الواردونَ، ثمَّ يُقالُ والمَورودُ صفةٌ لهم؟ وفي وصْفِ مَخْصوصِ نِعْمَ وبِئْسَ خِلافٌ بَيْنَ النَّحْويينَ.