وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(30)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} تأكيدٌ منه ـ عليه السلامُ، لموقِفِهِ السَّابِقِ وإصْراراً عليه، بِعَدَمِ الاسْتِجابةِ لِطَلَبِ المٌشْرِكينَ من قومِهِ الذين طلبوا منه طَرْدِ ضُعَفاءِ المُؤمِنينَ وفُقرائهم، ووضعوه شرطاً عليه ليؤمنوا بهِ، مُبَرِّراً مَوْقِفَهَ بِأَنَّ اللهَ تعالى هو مولى هؤلاءِ المُؤمنين الضُعفاءِ، فاللهَ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ، كما هو ربُّ الناسِ أجمعين، فَإِذَا طَرَدَ هؤلاءِ بَعْدَ أنْ آمنوا بِهِ وصدَّقوهُ وَاتَّبَعوا دينَ اللهِ، يكُونُ قَدْ ارْتَكَبْتُ بذلك جُرْماً عَظِيماً، استحقَّ به غَضَبَ ربِّهم ومَوْلاهم، فَمَنْ الذي يَسْتَطيعُ أَنْ يَنْصُرَهُ مِنَ اللهِ، ومَنِ الذي يُجِيرُهُ على اللهِ، ومَنِ الذي يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ عَذابِ اللهِ وعقابِ مولاه؟. فالنَّصْرُ: إِعَانَةُ الْمُقَاوِمِ لِضِدٍّ أَوْ عَدُوٍّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الْإِنْجَاءِ فَعُدِّيَ بِ "مِنْ" أَيْ مَنْ يُخَلِّصُنِي، أَيْ يُنْجِينِي مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ عِقَابِهِ، لِأَنَّ طَرْدَهُمْ إِهَانَةٌ تُؤْذِيهِمْ بِلَا مُوجِبٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ إِهَانَةَ أَوْلِيَائِهِ.
قولُه: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَفَلا تَذْكَّرُونَ أَنَّ اللهَ هو رَبُّ النَّاسِ أَجمعين، وهو ربُّ العالَمين، فهوَ إذاً ربُّ هؤلاءِ المُسْتَضْعَفين، فهلْ تَتَصَوَّرونَ أَنَّ ربَّهُم الذي خَلَقَهم يَتَخَلى عن نصرتهم، ولا يَغْضَبُ لِطَرْدِهِم عن دينه، وإبعادِهم عَنْ شَريعتِهِ؟ أَفَلا تتذكرونَ ذلك، وتَتَفَكَّرونَ في عاقِبَةِ أَمْرِكم، وتزنونَ ما تنطلقُ به أَلْسِنَتُكم، والعاقلُ يعملُ فكره ويزنُ كلامه قبل أنْ يخرج مِنْ فَمِهِ فلا يطلبُ ما يَسْتَحيلُ، ولا يتكلَّم ما لا يحق له الكلامُ به، فإنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، لاَ فَضْلَ عِنْدَهُ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالتَّقْوى وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، أَمّا أَعْراضُ الدنيا التي تَظُنّونَ أَنَّكم به مُتَمَيِّزونَ، فإنَّها لا تساوي شيئاً عنده سبحانه، فهي مِمَّا تَفَضَّلُ اللهُ بِهِ عَليكم، أَلا تَذْكُرون، فمن الذي أعطاكم إيّاها وأحَسَنَ إِلَيكم بها؟ فكيفَ تَتَّخِذونَها سَبَباً لِتَعاليكم على غيرِكم مِنْ عبادِ اللهِ؟ أَلا تَخْشَوْنَ أَنْ يَسْلِبَكمْ مولاكم هذه النعم فتصبحونَ ولا شيءَ تتعالونَ بهِ، كَهؤلاءِ الفقراء الذين تطلبون مني طردهم؟.
قولُهُ تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ} يا: أداةُ نِداءٍ لِمُتَوَسِّطِ البُعْدِ، و "قومِ" مُنادى مُضافٌ إلى ياء النداْ المحذوفةِ اسْتِغْناءً عَنْها بالكَسْرَةِ، وهو مَنصوبٌ على النِدَاءِ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ على ما قبلِ الياءِ المَحْذوفَةِ مَنَعَ من ظهورِها اشتغالُ المحلِّ بحركةٍ مناسبةٍ، والياءُ المَحْذوفَةُ للتَخْفيفِ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، وجملةُ النداءِ هذه معطوفةٌ على جملةِ النداءِ في الآيةِ التي قبلها. و "مَنْ" اسْمُ اسْتِفهامٍ إنْكارِيٍّ تقريريٍّ توقيفيٍّ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتداء، و "يَنْصُرُنِي" ينصُرُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدهِ من الناصبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازاً، تقديرُهُ "هوَ" يَعُودُ عَلى المقصودِ بِ "مَنْ" وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، والنونُ للوقايَةِ، و "مِنَ اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرّفْعِ خبراً للمبتدأِ، والجُمْلَةُ الاسِمِيَّةُ في محلِّ النصبِ بالقولِ كونَها جَواباً للنِداءِ.
قولُهُ: {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} إنْ: حَرْفُ شَرْطٍ، و "طَرَدْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّك هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ، والجملةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" على أنَّها فِعْلُ شَرْطٍ لَها، وجَوابُ الشرطِ مَعلومٌ مِمَّا قَبْلَهَا، والتقديرُ: إنْ طَرَدْتُهم فَمَنْ يَنْصُرُني، وجملةُ "إنْ" الشرطيَّةِ معَ شرطها وجوابِهِ في محل النَّصبِ بالقولِ لِـ "قال".
قولُه: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ التَوبِيخِيِّ التقريعيِّ، داخلةٌ عَلى مَحْذوفٍ، و "الفاءُ" عَاطِفَةٌ عَلى ذَلِكَ المَحذوفِ، و "لا" نافيَةٌ، و "تَذَكَّرُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصب والجازم، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، ومَفعولُهُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: أفلا تذكَّرون ما يَنْبَغي تَذَكُّرُهُ، وهذه الجملةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ على ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتقديرُ: أَتَسْتَمِروّنَ على ما أَنْتمْ عَلَيْهِ مِنَ الجَهْلِ فضلا تَذَكَّرونَ؟ والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهَا في محلِّ النصبِ بالقولِ ل "قَالَ".
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: {تَذَّكَّرُونَ} بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَأَصْلُ تَذَّكَّرُونَ، تَتَذَكَّرُونَ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ ذَالًا وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ "تَذَكَّرُونَ" بِتَخْفِيفِ الذَّالِ وَبِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.