فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
(82)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أيْ: فلَمَّا حانَ وقتُ نَفَاذِ أَمْرِنا وحَلَّ مَوْعِدُهُ، والْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ ههنا مَا هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ عَدَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْ يُخَرِّبُوا مدائنَ قومِ لوطٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ حدَّدَهُ لهم، فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ نفَّذوا ما أُمِروا به، فَكَانَ قَوْلُهُ: "فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا" إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ التَّكْلِيفِ. ولِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: "فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها" وَهَذَا الْجَعْلُ هُوَ الْعَذَابُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرْطٌ وَالْعَذَابُ جَزَاءٌ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ الْجَزَاءِ.
قولُهُ: {جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها} قَلَبْنا: فقد دُمِّرتْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ الأَرْبَعةُ التي يُقالُ لَها المُؤْتَفِكاتَ، وكان فيها ـ على ما قِيلَ، أَرْبَعُ مِئةِ أَلفِ وأَربعةُ آلافِ نَسَمَةٍ، وكانت على مسيرةِ ثلاثةِ أيام مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، وقد تقدمَ في الآية التي قبلها أَنَّ جِبْريلَ ـ عليه السلامُ، جعل جَنَاحَه في أسْفَلِها فاقتلعها مِنَ الماءِ الأَسْودِ، ثمَّ رَفَعَها إلى السَماء، ولم يَنتَبِه منهم نائم، ثمَّ قَلَبَها عليهم، فأَقْبَلَتْ تَهْوي مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ. وَأخرج ابْن جرير وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: حدثت أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى المؤتفكة مؤتفكة قوم لوط فاحتملها بجناحه ثمَّ صعد بهَا حَتَّى أَن أهل السَّمَاء ليسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثمَّ اتبعها الله بِالْحِجَارَةِ يَقُول الله تَعَالَى {جعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل} فأهلكها الله وَمن حولهَا من الْمُؤْتَفِكَات فَكُن خمْسا صَنْعَة وصغرة وعصرة ودوماً وسدوم وَهِي الْقرْيَة الْعُظْمَى قولُهُ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} يُقَالُ في كَلَامُ الْعَرَبِ: مَطَرَتِ السَّماءُ وأَمْطَرَتْ، وَفِي التَّفْسِيرِ: أَمْطَرْنَا فِي تُقالُ في الْعَذَابِ، وَمَطَرْنَا فِي الرَّحْمَةِ. والسجِّيلُ: الطِّينُ، لقوله في سورة الذاريات: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِين} الآية: 33. فالسِجِّيلُ هو الطينُ المُتَحَجِّرٌ، وقالوا: هِي حِجَارةٌ مِنْ طِينٍ طُبِخَتْ بنارِ جَهَنَّمَ كما فسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، وقيلَ هو مِنْ أَسْجَلَ، أَيْ: أَرْسَلَ فيكون فِعِّيلاً، وقيلَ: هوَ مِنَ التَسْجيلِ إذ كانَ كُتِبَ عَلَيْها أَسْماءُ القَوْمِ. والمَعْنى: أَنَّه مِمَّا كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ وأَسْجَلَ أَنْ يُعَذَّبَ بِهِ قَوْمَ لُوطٍ، وكَثيرًا ما نَسْتَعْمِلُهُ بهذا المَعْنَى فَنَقُولُ: سَجِّلْ كذا، وسجَّلتُ كَذا دوَّنتُهُ وثبَّتُهُ وحفظتُه وأرَّختُ له، والسَجِيلُ: الصَكُّ. وقد سَجَّلَ الحاكمُ تَسْجيلاً. والسِّجِلُّ: كِتَابٌ تُحفَظُ فيه وتدوَّنُ الحُقوقُ والوقائعُ والوثائق والتواريخُ وتُثَبَّتُ، والمُساجَلَةُ أَيضًا: المُفَاخَرَةُ. ومن ذلك قولُ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبي لَهَبٍ:
من يُساجِلْني يُساجِلْ ماجِدًا ............. يَمْلَأ الدَلوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ
ومِنْهُ قولُهم: الحربُ سِجالٌ. وتَساجلوا، أَيْ تَفَاخَرُوا. والمُسْجَلُ: المَبْذولُ المُباحُ الذي لا يُمْنَعُ مِنْ أَحَدٍ. وأَنْشَدَ عليه الضَبِّيُّ:
أَنَخْتُ قَلُوصِي بِالْمُرَيْرِ ورَحْلُها ........ لِمَا نَابَهُ مِنْ طَارِقِ اللَّيْلِ مُسْجَلُ
أَراد بالرَحْلِ المنزلِ. ويقال أَسْجَلْتُ الكلام، أي أرسلته. وقيل أصلُهُ مِنَ الدلوِ العظيمةِ إذا كان فيها ماءٌ سَواءٌ كانَتْ مُمْتَلِئَةً أَوْ غَيْرَ مُمْتَلِئَةٍ، ولا يُقالُ للفارغَةِ: سَجْلٌ، ومِنْ ذَلِكَ قولُ عَمرِو بْنِ قَميئةَ:
فلما نَأوا سَبَقَتْ عَبْرَتي ................ وأَذْرَتْ لِها بَعْدَ سَجْلٍ سِجالاوقال سلامةُ بْنُ جندلِ:
يهوي إذا الخيلُ جازتهُ وثارَ لها ....... هويَّ سجلٍ من العلياءِ مصبوبِ
وقالَ النَحَّاسُ: السِّجِّيلُ الشَّدِيدُ الْكَثِيرُ، وَسِجِّيلٌ وَسِجِّينٌ اللَّامُ وَالنُّونُ أُخْتَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أيضًا: السِّجِّيلُ الشَّدِيدُ، وَأَنْشَدَ لِتَميمِ ابْنِ مُقْبِلٍ:
وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ........ ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا
فقد ذهب أَبَو عُبَيْدَةَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ تُبْدَلُ مِنَ النُّونِ لِقُرْبِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، ورُدَّ عليه بأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى قَوْلِهِ لَكَانَ حِجَارَةً سِجِّيلًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: حِجَارَةٌ مِنْ شَدِيدٍ، لِأَنَّ شَدِيدًا نَعْتٌ. وَقَدْ يُقَالُ لِحِجَارَةِ الْأَرْحَاءِ سِجِّيلٌ. حكاهُ أبو عبيدة عن الفرّاءِ. وَقِيلَ: سِجِّيلٌ مُعَرَّبُ وهو بمعنى حَجَرٌ مَخْلُوطٌ بِطِينٍ. وقد تقدَّمَ غيرَ مرَّةٍ عدمُ موافقتنا على هذا الرأي، وفي هذا بُلغةٌ، ففي السِّجِّيلِ أَقوالٌ كثيرةٌ، ذَكَرْنَا مِنْها مَا وَجَدْنَاهُ أَقْرَبَ للصَّوابِ، وعَزَفْنا عَنِ الأَخْرى خَشْيَةَ الإطالَةِ.
وَ "مَنْضُودٍ" مَصْفوفٌ مُنَسَّقٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ. والنَّضْدُ: جَعْلُ الشيءِ بعضَه فوقَ بعضٍ، ومِنْهُ قولُهُ تعالى في سورة الواقعة: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الآية: 29، أيْ: مُتَراكِبٌ، والمُرادُ وصفُ الحجارة بالكثرة. وَالْمَعْنَى هُنَا أَنَّهَا مُتَتَابِعَةٌ مُتَتَالِيَةٌ فِي النُّزُولِ لَيْسَ بَيْنَهَا فَتْرَةٌ. وَالْمُرَادُ وَصْفُ الْحِجَارَةِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا جُعِلَتْ مِنْ سِجِّيلٍ، أُجْرِيَ الْوَصْفُ عَلَى سِجِّيلٍ وَهُوَ يُفْضِي إِلَى وَصْفِ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهُ.
وقد استدلَّ بَعْضُ الفقهاءِ بهذه الآيةِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ فحُكْمُهُ الرَّجْمُ.
قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ لأنَّها أَفصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، تَقْديرُهُ: إذا عَرَفْتَ ما قالوا لَهُ، وأَرَدْتَ بَيانَ عَاقِبَةِ أَمْرِهم. فأَقولُ لَكَ "لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا". و "لمَّا" حَرْفُ شَرْطٍ. و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "أمرُنا" فاعلٌ مرفوعٌ مضافٌ، وضميرُ المتكلِّمين: "نا" متَّصلٌ به في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لمّا". و "جَعَلْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ هو ضميرُ المتكلِّمين "نا" وهو متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "عاليها" مفعولٌ بهِ مضافٌ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إِليْهِ، و "سافلَها" مفعولُهُ الثاني. والجُمْلَةُ جَوابُ "لمَّا" الشرطيَّةِ فلا محلَّ لها من الإعراب، وجملةُ "لمَّا" بشرطها وجوابِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ.
قولُهُ: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} الواوُ: للعطفِ، و "أَمْطَرْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ هو ضميرُ المتكلِّمين "نا" وهو متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "جَعَلْنَا". و "عَلَيْهَا" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِ "أَمْطَرْنَا". و "حِجَارَةً" مَفْعولٌ به منصوبٌ. و "مِنْ سِجِّيلٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ في محلِّ نصبِ صفةٍ لِـ "حِجَارَةً". و "مَنْضُودٍ" صِفَةٌ لِـ "سِجِّيلٍ".