وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
(61)
قولُهُ ـ جلَّ ثناؤه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ـ جَلَّ ذِكْرُهَ، في هذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ قِصَّةَ نَبِيِّيْنِ كَريمَيْنِ مِنْ أَنْبِيائِهِ الكِرامِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَعَ قومِهِما، وهما نُوحٌ وهُودٌ، بَدَأَ بقصَّةِ نَبَيٍّ ثالثٍ هوَ صالِحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ قومِهِ ثَمودَ، والقِصَصُ جَميعُها مُتَشابِهَةٌ، فَكُلُّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ لِيَهْدِيَهم سَواءَ السَبيلِ، فَيَأْبَى عِلْيَةُ القَوْمِ الاسْتِجابَةَ لِدَعْوَتِهِ لأَنَّها تُخْرِجِهم عَمّا اعْتَادوا عَلَيْهِ وأَلِفُوهُ ممّا وَجَدوا عَلَيْهِ آباءَهم، وما وَرِثوهُ عن أجدادِهم، مِنْ تَأْليهِ مَخْلوقٍ، أَوِ اتِّخاذِ صَنَمٍ، يَحْمِلونَ النَّاسَ عَلى عِبادَتِهِ ويُلْزِمونَهم طاعةَ سَدَنَتِهِ، ويكونُ في ذلكَ لَهم مَكاسِبُ مادِّيَّةٌ ومَعْنَوَيَّةٌ مِنْ أموالٍ يجبونَها، أو جاهٍ أو سُلْطانٍ وتَسَلُّطٍ عَلى العَبَادِ، فيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ التَخَلِّي عَنْ تِلْكَ المَكاسِبِ والمَراتِبِ، فيُكَذِّبونَ نَبِيَّهم الذي أَرْسَلَهُ اللهُ لهدايَتِهم، ويُناصِبونَه العداءَ، فلا يَسْتَجِيبُ لَهُ سِوى نَفَرٍ قَليلٍ غَالِبِيَّتُهم مَنَ البُسَطاءِ والفُقَراءِ والمُسْتَضْعَفينَ، فيُهلِكُ اللهُ المُسْتَكْبِرينَ، ويَنْصُرُ نَبِيَّهُ ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنينَ، وتتكرَّر القصَّةُ في كلِّ عصرٍ معَ أمَّةٍ أخرى، ولكِنَّ العَجَبَ أَنَّ البَشَرَ لا يتَّعِظونَ ولا يَعْتَبِرونَ بِما يَروْنَ ويَسْمَعونَ من قِصَصِ مَنْ سَبَقَهم مِنَ الأُمَمِ.
وها نحنُ معَ قصَّةٍ جديدةٍ ونبيٍّ كريمٍ، وهي قصَّةُ نَبِيِّ اللهِ صَالِحٍ مَعَ قومِهِ ثَمُودَ، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَسْكُنُونَ مَدَائِنَ الحِجْرِ بَيْنَ تَبُوكَ وَالمَدِينةِ المُنَوَّرَةِ، وَقد جاءُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ بمئةِ سَنَةٍ فَكانَتْ لَهمْ دَوْلَةٌ وقوَّةٌ، فَبَطِروا كَذَلِكَ وتكَبَّروا وتَجَبَّروا، وكَفَروا بِرَبَّهم، فأَرْسَلَ اللهُ لَهُمْ نَبِيَّهُ صَالِحًا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَمَرهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وأَلَّا يُشْرِكوا مَعَهُ أحدًا غَيْرَهُ، فَأَبَوْا وكَذَّبوهُ ونَاصَبُوهُ العَداوةَ كَغَيْرِهم مِمَّنَ سَبَقَهُم. وثَمُودُ، هيَ قبيلةٌ مِنَ العَرَبِ، سُمُّوا باسْمِ أَبِيهِمُ الأَكبَر، ثَمُودَ بْنِ عاد بْنِ إِرَمَ بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ ـ عليه السَّلامُ، وقِيلَ: إنَّما سُمُّوا بِذلِكَ لِقِلَّةِ مائِهم، فهُوُ مِنَ الثَّمْدِ، وهوَ الماءُ القليلُ، ونَبِيُّهم هوَ صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسِف بْنِ ماسِخ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ خاوَرِ بْنِ ثَمُودَ، وقدْ عَاشَ صَالِح ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِئَتَيْ عامٍ وثَمانِينَ، وتقَدَّمَ لنا تفصيلٌ عن قصَّتِهِ مع قومِهِ، في سورةِ الأعرافِ.
قولُهُ: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهذا هوَ أَساسُ كلِّ دَعْوةٍ جاءَ بِها مِنْ رَبِّهم النَّبِيُّونَ، وعلى هذا الأساسِ بُنِيَ كُلُّ دين مِنَ الأَدْيانِ السماويَّةِ، مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، وما بعدَهُ مِنْ عباداتٍ ومعاملاتٍ فهو تَفْصيلٌ، فإذا كانَ الأَساسُ صُلْبًا مَتَينًا قوِيًّا شَمَخَ البناءُ وتعالى، وإذا كانَ ضعيفًا مُهَلْهَلًا تداعى البِنَاءُ وتَهَاوَى.
قولُهُ: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ: ابْتَدَأَ إِنْشَاءَكمْ مِنَ الأرضِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ، خَلَقَ آدَمَ مِنَ التُرابِ، وهوَ أُنْموذَجٌ مُنْطَوٍ عَلى جَميعِ ذُرِّيَّاتِهِ التي وجدتْ وسَتُوجَدُ بَعْدَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، انْطِواءً إِجْمالِيًّا؛ لأَنَّ كلَّ واحِدٍ مِنْهم مَخْلوقٌ مِنَ مَنِيِّ ذَكَرٍ وبُوَيْضَةِ أُنْثَى، والمَنِيُّ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الدَمِّ، والدَمُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الأَغْذِيَةِ، والأَغْذِيَةُ إمَّا حَيَوانِيَّةٌ أَوْ نَبَاتِيَّةٌ، والنَبَاتِيَّةُ مِنَ الأَرْضِ، والحَيَوانِيَّةُ مِنَ النَبَاتِيَّةِ وجميعُها مِنَ الأَرْضِ، وكذلك بُوَيْضَةُ الأُنْثى فثبَتَ أنَّه ـ سبحانَهُ وتَعالى أَنْشَأَ الكُلَّ مِنَ الأَرْضِ.
قَوْلُهُ: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} أيْ: جَعَلَكم سُكَّانَ الأَرْضِ، وصَيَّرَكُمْ عامِرينَ لَها، أَوْ جَعَلَكمْ مُعَمِّرينَ دِيارَكم تَسْكُنُونَها مُدَّةَ أَعْمارِكُمْ، ثمَّ تَتْرُكونَها لِغَيْرِكم، وقالَ الضَحَّاكُ: أَطالَ أَعمارَكم فيها، حَتَّى كانَ الواحِدُ منهم يعيشُ ثلاثَ مِئَةِ سَنَة إلى أَلفِ سَنَة، وكذلكَ كانَ قومُ عادٍ، وقال مُجاهِد: أَعْمَركم مِنَ العَمْرى؛ أَيْ: جَعَلَها لَكُمْ ما عِشْتُم.
وَالِاسْتِعْمَارُ: الْإِعْمَارُ، أَي جعلكُمْ عامرينَها، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي اسْتَبْقَى وَاسْتَفَاقَ. وَمَعْنَى الْإِعْمَارِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ تَعْمِيرًا لِلْأَرْضِ حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَمْرُ الْأَرْضِ. وفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ هي:
الْأَوَّلُ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا، قَالُوا: كَانَ مُلُوكُ فَارِسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، لَا جَرَمَ حَصَلَتْ لَهُمُ الْأَعْمَارُ الطَّوِيلَةُ فَسَأَلَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ زَمَانِهِمْ رَبَّهُ، مَا سَبَبُ تِلْكَ الْأَعْمَارِ؟ فَأَوْحَى الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي. وَقد أَخَذَ مُعَاوِيَةُ أميرُ المؤمنين ـ رضيَ اللهُ عنه، فِي إِحْيَاءِ أَرْضٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ:
لَيْسَ الْفَتَى بِفَتًى لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ .......... وَلَا يَكُونُ لَهُ فِي الْأَرْضِ آثَارُ
الوجهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا، وَاشْتِقَاقُ "اسْتَعْمَرَكُمْ" مِنَ الْعُمْرِ مِثْلَ اسْتَبْقَاكُمْ مِنَ الْبَقَاءِ.
وَالوجهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُمْرَى، أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ فَإِذَا مُتُّمُ انْتَقَلَتْ إِلَى غَيْرِكُمْ.
وَفِي كَوْنِ الْأَرْضِ قَابِلَةً لِلْعِمَارَاتِ النَّافِعَةِ لِلْإِنْسَانِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ قَادِرًا عَلَيْهَا دَلَالَةً عَظِيمَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ في سورةِ الْأَعْلَى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الآية: 3. وَذَلِكَ لِأَنَّ حُدُوثَ الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَاتِهِ الْعَقْلُ الْهَادِي وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الْمُوَافِقَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ وَكَوْنُ الْأَرْضِ مَوْصُوفَةً بِصِفَاتٍ مُطَابِقَةٍ لِلْمَصَالِحِ مُوَافِقَةٍ لِلْمَنَافِعِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ. وفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِسْكَانِ وَالْعُمْرَى وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ في السُّكْنَى وَالرُّقْبَى فِي السُّكْنَى وَالرُّقْبَى في سورة "الْبَقَرَةِ". وَأَمَّا الْعُمْرَى فَاخْتَلَفَ العلماءُ فيها على ثلاثة أقوال:
أَحَدُها: أَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الرَّقَبَةِ حَيَاةَ الْمُعْمَرِ مُدَّةَ عُمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبًا فَمَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ، هَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَيَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سورةِ "الْبَقَرَةِ" حُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ ومنافعها وَهِيَ هِبَةٌ مَبْتُولَةٌ، أي: ماضيةٌ غيرُ راجعةٍ إلى الواهب، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا، وَالثَّوْرِيِّ والحَسَنِ ابْنِ حَيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالُوا: مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا شَيْئًا حَيَاتَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا، وَشَرْطُ الْمُعْطِي الْحَيَاةَ وَالْعُمْرَ بَاطِلٌ، لِأَنَّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: "العُمْرى جائزة" وقال: "العُمْرى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ".
الثَّالِثُ: إِنْ قَالَ عُمْرَكَ وليم يَذْكُرِ الْعَقِبَ كَانَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ قَالَ لِعَقِبِكَ كَانَ كَالْقَوْلِ الثَّانِي، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُوَطَّأِ. وَالْمَعْرُوفُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، إِذَا انْقَرَضَ عَقِبُ المُعَمَّرِ، إذا كَانَ الْمُعْمِرُ حَيًّا، وَإِلَّا فَإِلَى مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِهِ. وَلَا يَمْلُكُ المُعَمَّرُ بِلَفْظِ العُمْرَى عِنْدَ مَالِكٌ فِي الْحَبْسِ أَيْضًا: إِذَا حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ وَعَقِبِهِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وَإِنْ حُبِسَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ حَيَاتَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْعُمْرَى قِيَاسًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُوَطَّأِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال: ((أَيُّما رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَقَالَ قَدْ أَعْطَيْتُكَهَا وَعَقِبَكَ مَا بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا، وَأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ)). وَعَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا، قَالَ مَعْمَّرٌ: وَبِذَلِكَ كَانَ الزُّهْرِيُّ يُفْتِي. ومَعْنَى الْقُرْآنِ يَجْرِي مَعَ أَهْلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: "وَاسْتَعْمَرَكُمْ" بِمَعْنَى "أَعْمَرَكُمْ"، فَأَعْمَرَ الرَّجُلَ الصَّالِحَ فِيهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ وَالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، وَبِالْعَكْسِ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ، فَالدُّنْيَا ظَرْفٌ لَهُمَا حَيَاةً وَمَوْتًا. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْعَقِبِ. وَفِي سورةِ الشُعراءِ: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الآية: 84. أَيْ ثَنَاءً حَسَنًا. وَقِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال في سورة الصافّات: {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} الآية: 77. وَقَالَ بعدها في الآية: 113 مِنَ السُورَةِ ذاتها: {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}.
قولُهُ: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} فَاسسْتَغْفِرُوهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنَوبٍ، وَتُوبُوا إِلَيهِ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَه من أمرِ دنياكم لينجيكمُ اللهُ تعالى مِنَ الهلاكِ في الدنيا، والعذابِ في الآخرة.
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} فَإِنَّ رَبِّي قَريبٌ، يَسْمَعُ دَعْوَةَ مَنْ دَعَاهُ، وَيُجِيبُهُ إذا كَانَ مُؤْمِناً، مُخْلِصاً فِي دَعْوَتِهِ. وَالْقُرْبُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلرَّأْفَةِ وَالْإِكْرَامِ، لِأَنَّ الْبُعْدَ يُسْتَعَارُ لِلْجَفَاءِ وَالْإِعْرَاضِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ الْأَضْبَطِ:
تَبَاعَدَ عَنِّي مِطْحَلٌ إِذْ دَعَوْتُهُ .............. أَمِينَ فَزَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدًا
فَكَذَلِكَ يُسْتَعَارُ ضِدُّهُ لِضِدِّهِ. وإِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ يَعْنِي أَنَّهُ قَرِيبٌ بِالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ مُجِيبٌ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} الواوُ للعطفِ، و "إِلَى ثَمُودَ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ مَعْطوفٍ على قولِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} الآية: 25 من هذه السورة، و "أَخَاهُمْ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ ل {أَرْسَلْنَا} المحذوفِ وعلامةُ نَصْبِهِ الألفُ لأنَّهُ من الأسماءِ الخمسةِ، وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبين "هم" متَّصلٌ به في مَحَلِّ جَرٍّ بالإضافةِ إليه. و "صَالِحًا" عَطْفُ بَيانٍ لَهُ.
قولُهُ: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِر، وفاعِلُهُ ضَميرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى صَالِحٍ ـ عليهِ السلامُ، وهذه الجُمْلَةُ لا محلَّ لها من الإعرابِ لأنَّها مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، و "يَا قَوْمِ" أداةُ نداءٍ للمتوسِّطِ بُعْدُهُ، ومُنادَى مَنْصوبُ بالنداءِ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ منعَ من ظهورِها انْشِغالُ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ للتخفيفِ، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ المحذوفةِ ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ. و "اعْبُدُوا" فِعْلُ أمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّ مضارعَهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" في محلِ نَصْبِ مَفْعولِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ جَوابُ النِداءِ، فلا محلَّ لها. و "ما" نافيَةٌ، و "لَكُمْ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بخبرٍ مقدَّمٍ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "إِلَهٍ" مجرورٌ لفظًا ب "من" مرفوعٌ محلًّا على أنَّه مُبْتَدَأٌ مؤخرٌ، و "غَيْرُ" مرفوعٌ صِفَةً لِ "إِلَهٍ" وهو مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قال".
قولُهُ: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} هُوَ: ضميرٌ منفصلٌ للغائبِ في محلِّ رفعٍ، مُبْتَدَأٌ، و "أَنْشَأَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعلُهُ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هوَ" يعودُ على اللهِ تعالى، وضميرُ المُخاطَبينَ "كُمْ" متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مَفعولِهِ، و "مِنَ الْأَرْضِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خبرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ من المبتدأِ وخبرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب، و "واسْتَعْمَرَكُمْ" الواوُ: للعطفِ و "اسْتَعْمَرَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعلُهُ مُسْتَتِرٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على اللهِ تعالى، وضَميرُ المُخاطَبينَ "كم" في مَحلِّ نَصْبِ مَفعولِهِ، و "فِيهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "استعمرَكم"، وجملةُ "استعمرَكم" مَعْطوفَةٌ عَلى جملةِ "أَنْشَأَكُمْ" في محلِّ رفعٍ.
قولُهُ: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الفاءُ: للعطفِ والتفريعِ، و "اسْتَغْفِروهُ" فعلُ أمرٍ مبنيِّ على حذفِ النونِ من آخرهِ لأنَّ مضارِعَه من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفْعِ فاعِلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ مَعطوفَةٌ على الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ في قوله: "هُوَ أَنْشَأَكُمْ" مفرَّعةٌ عليها، و "ثُمَّ" للعطفِ والترتيب مع التراخي، و "تُوبُوا" معطوفٌ على "اسْتَغْفِرُوا" فإعرابُهُ مثلُهُ؛ و "إِلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ.
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "رَبِّي" اسْمُهُ منصوبٌ وعلامةُ نصبهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على الباءِ لانشغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياءِ المتكلِّمِ، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرٍّ، مضافٌ إليه، و "قَرِيبٌ" خَبَرٌ ل "إنَّ" مَرْفوعٌ، و "مُجِيبٌ" خَبَرٌ ثانٍ لها، أَوْ صِفَةٌ للخبرِ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَهَا.
قرأَ العامَّةُ: {ثمودَ} ممنوعًا مِنَ الصَرْفِ هُنَا لِعِلَّتَيْنِ: وهُما العِلْمِيَّةُ والتأْنيثُ، فذَهَبوا بِهِ مَذْهَبَ القَبيلَةِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ والأعمشُ: "وَإِلَى ثَمُودٍ" بِالتَّنْوِينِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. وَاخْتَلَفَ سَائِرُ الْقُرَّاءِ فِيهِ فَصَرَفُوهُ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَصْرِفُوهُ فِي مَوْضِعٍ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ لَوْلَا مُخَالَفَةُ السَّوَادِ لَكَانَ الْوَجْهُ تَرْكَ الصَّرْفِ، إِذْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ، مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّأْنِيثُ كَلَامٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ ثَمُودًا يُقَالُ لَهُ حَيٌّ، وَيُقَالُ لَهُ قَبِيلَةٌ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْقَبِيلَةَ، بَلِ الْأَمْرُ عَلَى ضِدِّ مَا قَالَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. وَالْأَجْوَدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِيمَا لَمْ يَقُلْ فِيهِ بَنُو فُلَانٍ الصَّرْفُ، نَحْو قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، وَكَذَلِكَ ثَمُودٌ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّذْكِيرُ الْأَصْلُ، وَكَانَ يَقَعُ لَهُ مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ كَانَ الْأَصْلُ الْأَخَفُّ أَوْلَى. وَالتَّأْنِيثُ جَيِّدٌ بَالِغٌ حَسَنٌ. مِنْ ذلك قولُ عَدِيِّ بْنِ الرُّقاعِ:
غَلَبَ الْمَسَامِيحَ الْوَلِيدُ سَمَاحَةً ...... وَكَفَى قُرَيْشَ الْمَعْضِلَاتِ وسادها
البيتُ من قصيدةٍ للشاعرِ يمدحُ فيها عبد الملكِ بْنَ مروانٍ، والشاهدُ فيهِ تَرْكُ صَرْفِ قُرَيْشٍ حَمْلًا على معنى القَبيلَةِ، والصَرْفُ فيها أَكْثَرُ وأَعْرَفُ، لأنَّهم قَصَدوا بِها الحَيَّ، وغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْها.
وَلَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الْهَاءِ في مِنْ "غَيْرُهُ" فِي الْهَاءِ مِنْ "هُوَ" إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ حَذَفَ الْوَاوَ فِي الْإِدْرَاجِ.