فيض العليم .... سورة هود، الآية: 112
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
قولُهُ ـ تعالى ثناؤهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الظاهرُ أَنَّ هَذا أَمْرٌ للرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بالدَّوامِ عَلى الاسْتِقَامَةِ بعدَ أَنْ بَيَّنَ أَمْرَ المُخْتَلِفينَ في التَّوحيدِ والنُبُوَّةِ، وأَطْنَبَ في شَرْحِ الوَعْدِ والوَعِيدِ. والاسْتِقامَةُ المأمورُ بها هنا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كالاسْتِقَامَةِ التي أُمِرَ بِها مِنْ قبلُ، لِقَوْلِهِ تعالى: "كما أُمِرتَ" وهذا يَقْتَضي أنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أُمِرَ بِوَحْيٍ آخَرَ، ولَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ كَمَا قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَفْسيرِ. والاسْتِقامَةُ كَلِمَةٌ جامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بالعِلْمِ والعَمَلِ وسائِرِ الأَخْلاقِ، فَتَشْمَلُ العَقائدَ والأَعْمالَ المُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وبَيْنَ سائرِ المُؤْمِنينَ، والأُمورَ الخاصَّةَ بِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنْ تَبْلِيغِ الأَحْكامِ والقيامِ بِوَظائفِ النُّبُوَّةِ وتَحَمُّلِ أَعباءِ الرِّسالَةِ وغيرِ ذَلِكَ.
والاسْتِقامَةُ هيَ التَوَسُّطُ بَيْنَ الإفْراطِ والتَفْريطِ بِحَيْثُ لا يَكونُ مَيْلٌ إِلى أَحَدِ الجانِبَيْنِ قَيْدَ شَعْرَةٍ مِمَّا لا يَحْصَلُ إلَّا بالافْتِقارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى ونَفْيِ الحَوْلِ والقُوَّةِ بالكُلِّيَةِ، ومَثَّلوا الأَمْرَ المُتَوَسِّطَ بَيْنَ ذَيْنَكَ الطَّرَفَيْنِ بِخَطٍّ يَكونُ بَيْنَ الشَّمْسِ والظِّلِّ لَيْسَ بِشَمْسٍ ولا ظِلٍّ بَلْ هوَ أَمْرٌ فاصِلٌ بَيْنَهُما ولَعُمْري إِنَّ ذَلِكَ لَدَقيقٌ، ولِهَذَا قالوا: لا يُطيقُ الاسْتِقامَةَ إِلَّا مِنْ أُيِّدَ بالمُشاهَداتِ القَوِيَّةِ والأَنْوارِ السَّنِيَّةِ، ثمَّ عُصِمَ بالتَشَبُّثِ بالحَقِّ، قالَ تعالى في سُورَةِ الإسْراءِ: {ولولا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهم شَيْئًا قليلًا} الآية: 74، ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ هَذا الأَمْرِ ما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ لَمّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ: ((شَمِّرُوا شَمِروا)) وما رُؤيَ بَعْدَها ضَاحِكًا. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهما، أَنَّهُ قالَ: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ وَلا أَشَقُّ.
وإشفاقُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إنَّما كان مِنْ أَجْلِ أُمَّتِهِ، لا مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ؛ لأنَّه معصومٌ. ولا يَبعُدُ أَنْ يَكونَ قد أَشْفَقَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنْ صُعُوبَةِ اسْتِقامَتِهِ التي تَليقُ بِهِ، فَبِقَدْرِ ما يَعْلُو المَقامُ يُطْلَبُ بِزِيادَةِ الأَدَبِ، وبِقَدْرِ ما يَشْتَدُّ القُرْبُ يَتَوَجَّهُ العِتابُ. ولِذَلِكَ كانَ الحَقُّ تَعَالى يُعاتِبُهُ عَلى ما لا يُعَاتِبُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ. فحَسَنَاتُ الأَبْرارُ سَيِّئاتُ المُقَرَّبينَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ! قَالَ: ((قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)). وَرَوَى الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْأَزْدِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَوْصِنِي! فَقَالَ: نَعَمْ! عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ وَالِاسْتِقَامَةِ، اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ. وأَوَّلَ الاستقامةِ: مَعْرِفَةُ الله تَعَالَى وَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى وَجْهٍ يُبْقِي الْعَبْدَ مَصُونًا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ عَنِ التَّشْبِيهِ، وَفِي طَرَفِ النَّفْيِ عَنِ التَّعْطِيلِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، وَاعْتَبِرْ سَائِرَ مَقَامَاتِ الْمَعْرِفَةِ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَيْضًا فَالْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَرَفَا إِفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ وَهُمَا مَذْمُومَانِ، وَالْفَاصِلُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ صَعْبٌ ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، بِتَقْدِيرِ مَعْرِفَتِهِ فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ وَالْعَمَلُ بِهِ أَصْعَبُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقَامُ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لَا جَرَمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ وَلَا أَشَقُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلِهَذَا قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا))، وَسُئِلَ عَمَّا فِي هُودٍ فَقَالَ: قَوْلُهُ: "فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ" وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ لَهُ: رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا فَقَالَ: ((نَعَمْ)) فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ آيَةٍ؟ فَقَالَ بِقَوْلِهِ: "فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ".
قولُهُ: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} لَمَّا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي كِتَابِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَطَفَ على أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى كِتَابِهِ، أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الِاسْتِقَامَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ مِنْ دَوَاعِي الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ بِنُهُوضِ فِرَقٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى تَبْدِيلِهِ لِمُجَارَاةِ أَهْوَائِهِمْ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأُمَّةِ عَمْدًا إِلَى أَحْكَامِ كِتَابِهَا إِنْ هُوَ إِلَّا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُ اخْتِلَافُهَا عَلَى أَحْكَامِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: ((فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الِاسْتِقَامَةُ حَائِلًا دُونَ ذَلِكَ، إِذِ الِاسْتِقَامَةُ هِيَ الْعَمَلُ بِكَمَالِ الشَّرِيعَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْحَرِفُ عَنْهَا قِيدَ شِبْرٍ. وَمُتَعَلِّقُهَا الْعَمَلُ بِالشَّرِيعَةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَصْلٌ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِقَامَةُ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنى قَول النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث المتقدِّمِ لِأَبِي عَمْرَةَ الثَّقَفِيِّ لَمَّا قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قَالَ: ((قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)) فَجَعَلَ الِاسْتِقَامَةَ شَيْئًا بَعْدَ الْإِيمَانِ. أخرجه الإمامُ أَحْمد في مُسنَدِه: (30/437)، وعبدُ الرزَّاقِ في مصنَّفه: (11/128)، وَعبدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والدارميُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُسْلم في صحيحه: (1/47(68)، والتِّرْمِذِيُّ وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ ماجةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والبيهقيُ، والطبرانيُّ، والطيالسيُّ وغيرُهم عَن سُفْيَان الثَّقَفِي.
قولُه: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} مَعْنَى الطُّغْيَانِ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِقْدَارَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: يُرِيدُ تَوَاضَعُوا لله تَعَالَى وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَى أَحَدٍ وَقِيلَ وَلَا تَطْغَوْا فِي الْقُرْآنِ فَتُحِلُّوا حَرَامَهُ وَتُحَرِّمُوا حَلَالَهُ، وَقِيلَ: لَا تَتَجَاوَزُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَحُدَّ لَكُمْ، وَقِيلَ: وَلَا تَعْدِلُوا عَنْ طَرِيقِ شُكْرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ عِنْدَ عِظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَالْأَوْلَى دُخُولُ الْكُلِّ فِيهِ.
قولُهُ تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الفاءُ: هي الفصيحةُ؛ لأنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقديرُهُ: إذا عَرَفْتَ أَحْوالَ القُرونِ الأُولى مع أنبيائهم، وأردت بيانَ ما هو اللازم لك؛ فأقولُ: "اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ". و "استقم" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يعودُ عَلى السولِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقدَّرةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "كَمَا" الكافُ: حَرْفُ جَرِّ للتشبيهِ. و "ما" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالكافِ. و "أُمِرْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ مَبْنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ هو تاء الفاعلِ، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ نائبِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" المَوْصولَةِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: كالاسْتِقامَةِ التي أُمِرْتَ بِها، والجارُّ والمَجْرورُ صِفَةٌ لِمَصدْرٍ مَحْذوفٍ تَقديرُه: فاسْتَقِمْ اسْتِقامَةً مِثْلَ الاسْتِقامَةِ التي أُمِرْتَ بِها.
قولُهُ: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "من" اسْمٌ مَوْصولٌ في محلِّ الرَّفعِ معطوفٌ عَلى الضَّميرِ المُسْتَتِرِ في "استقم" لِوُجودِ الفَاصِلِ الذي هو الجارُّ والمجرورُ "كما". و "تَابَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُه "هو" يعودُ على "من"، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ "من" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مَعَكَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليه، والجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصبِ حالٍ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في "تَابَ". ويجوزُ أنْ يكونَ مرفوعًا، فإنَّهُ عطفُ نَسَقٍ عَلى الضميرِ المُسْتَتِرِ في "استقم"، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عَنْ تَأْكيدِهِ بِضَميرٍ مُنْفَصِلٍ في صِحَّةِ العَطْفِ، وهُوَ مِنْ عَطْفِ الجُمَلِ لا مِنْ عَطْفِ المفردات، والتقديرُ: فاسْتَقِمْ أَنْتَ وَلْيَسْتَقِمْ مَنْ تَابَ، فالرافِعُ لَهُ فِعْلٌ لائقٌ بِرَفْعِهِ الظاهرَ
قولُه: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَلَا: حرفُ عطفٍ و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تَطْغَوْا" فِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لا" الناهيةِ وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ من آخرِهِ لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ الفارقة، والجملةُ معطوفةٌ عَلَى جملةِ "استقم". و "إِنَّهُ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "بِمَا" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "بَصِيرٌ" و "ما" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرف الجرِّ، أو نَكرةٌ موصوفةٌ، و "تَعْمَلُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِه من الناصب والجازم، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّه من الأفعال الخمسة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وجملةُ "تَعْمَلُونَ" صِلَةُ الموصولِ "ما" أَوْ صِفَةٌ لَهَا. والرابطُ، أوِ العائدُ تقديرُهُ: يعملونَه، و "بَصِيرٌ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ، وجملةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسوقَةٌ لِتَعْليلِ الأَمْرِ والنَّهْيِ السَّابِقَيْنِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ
وقرأَ العامَّةُ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بالتاءِ جَرْيًا عَلَى الخِطَابِ المُتَقَدِّمِ. وقرَأَ الحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسى الثَّقَفيُّ: "يعملون" بياءِ الغيبَةِ، وهوَ الْتِفاتٌ مِنْ خَطَابٍ لِغَيْبَةٍ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ في {بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من الآيةِ التي قبلها.