فيض العليم .... سورة هود، الآية: 111
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} ذَكَرَ تعالى في الآيةِ السَّابِقَةِ أَنَّهُ آتى سَيِّدَنا مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، الكِتَابَ، أَيْ التَوراةَ، نُورًا لِبَني إِسْرائيلَ وهُدًى فاخْتَلَفوا فيهِ، فمنهم مَنْ بدَّلَ وحرَّفَ، ومنهم، مَنْ أضافَ أو حذفَ، ومنهم مَنْ لَوى أَعْنَاقَ آياتِ اللهِ وأَحْكامَهُ، بما يُلائمُ هَواهُ ويَخْدُمُ مَصالحَهُ، وقليلٌ مِنْهم الذينَ تَمَسَّكوا بِهِ والتزموا تعاليمه، وعَمِلوا بما فيه. وقد وعَدَهم اللهُ تعالى في هذه الآيَةِ بِأَنْ يُكافئَ الطائعَ المُسْتَجيبَ، فيوفِّيَهِ أَجْرَهُ، وتوعَّدَ المُخالِفَ، بِأَنَّهُ مُوَفِّيهِ أَيْضًا مَا يَسْتَحِقُّ، مِنْ عِقابٍ ونَكالٍ.
وإنَّما المُخاطَبُ النبيُّ مُحَمَّدٌ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، تَسْلِيَةً لِقَلْبِهِ الشَّرِيفِ عَمَّا يُلاقيهِ مِنْ عَنَتِ قومِهِ، ومُحَارَبَةِ يَهُودِ عَصْرهِ، وتَكذيبِهِم له، وحذْفِهم كُلَّ ما يَخُصُّ رِسالَتَهُ وصِفَتَه مِنْ كِتابِهم، والمَقْصودُ أَيْضًا تَحْذيرُ أُمَّتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ أَنْ يَفْعَلوا فعلَ اليَهودِ، ويَحْذوا حَذَوَهمْ، فيُصيبُهم ما أَصابَهم، وإنْ كانَ اللهُ تعالى قدْ أَخَّرَ عَذَابَهم في الدنيا واسْتِئْصالَهم، فإنَّما هوَ القَضاءُ الذي قَضاهُ، والحِكْمَةُ فيما أَمْضاهُ، بِأَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهم العَذابَ، إلى يومِ العَرْضِ والحِسابِ. والمَعْنى: وَإِنَّ جَمِيعَهُمْ لَلَاقُونَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّ تَوْفِيَةَ اللهِ إِيَّاهُمْ أَعْمَالَهُمْ حَقَّقَهُ اللهُ وَلَمْ يُسَامِحْ فِيهِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنَّهُ سبحانَهُ خَبيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ بِحَيْثُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ جَلائِلِهِ ودَقائقِهِ، وهُوَ تَعْليلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ تَوْفية أَجْزِيَةِ أَعْمَالِهم فإنَّ الإحاطَةَ بِتَفاصِيلِ أَعْمالِ الفَريقَيْنِ وما يَسْتَوْجِبُهُ كُلُّ عملٍ بِمُقتَضى الحِكْمَةِ مِنَ الجَزَاءِ المَخْصوصِ تُوجِبُ تَوْفِيَةَ كلِّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ إنْ خيْرًا فخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} "إنَّ" حرفُ نصبٍ ونَسْخٍ مُشَبَّهٌ بالفعلِ. و "كُلًّا" اسْمُها مَنْصوبٌ بِها، وقد نوِّنَ عوَضًا عنِ الإضافة. "لَمَّا" حرفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ حُذِفَ فِعْلُهُ المَجْزومُ بِهِ، والتقديرُ: لَمَّا يُوفّوا أَعمالهم، أو: "اللامُ": حَرفُ ابْتِداءٍ، و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الذينَ، مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ". و "لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "يوفيَنَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ، الثَّقيلَةِ، في مَحَلِّ الرَّفْعِ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، ونونُ التَوْكيدِ الثَّقيلةُ حرفٌ لا مَحَلٌّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و الهاءُ: ضَميرُ جماعَةِ الذُّكور الغائبينَ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفعولِهِ الأوَّل والميمُ علامةُ جمعِ الذكور. و "رَبُّكَ" فاعِلٌ مرفوعٌ مضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. و "أَعْمَالَهُمْ" مَفْعولٌ بِهِ ثَانٍ ل "يوفي" وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبين، "هم" في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذوفٍ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ مَعَ جَوابِهِ صِلَةُ "ما" المَوْصولَةِ، والعائدُ ضَميرُ المَفْعُولِ الأَوَّلِ، والمَوْصُولَ مَعَ صِلَتِهِ خَبَرُ "إنَّ" وجملةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والتَقْديرُ: وإنْ كُلًّا مِنَ الخَلائقِ للذينَ واللهِ لَيَوَفِّيَنَّهم رَبُّكَ أَعْمَالَهم. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" نَكِرَةً مَوْصوفَةً، والجُمْلَةُ القَسَمِيَّةُ مَعَ جَوابِها صِفَةٌ لِ "ما" المَوْصوفَةِ، والتَقْديرُ: وإِنْ كلًّا لَخَلْقٌ، أَوْ لَفَريقٌ مَوْصوفونَ يَكونُ اللهُ تَعالى وافِيًا لَهم أعمالهم، والموصوفُ وصِفَتُهُ خَبَرُ "إِنَّ".
قولُهُ: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إنَّ: تقدَّمَ إعرابها، والهاءُ: اسْمُها، و "بما" الباءُ حرف جرٍّ متعلِّقٌ ب "خبير"، و "ما" حرفٌ مصدريٌّ والمَصدرُ المؤوَّلُ في محلِّ الجَرِّ بالباءِ والتقديرُ: "إنَّهُ بعَملِهم خبيرٌ". أو "ما" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرف الجرِّ، و "يعملون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ، لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجملةُ صلةُ الموصولِ فلا محلَّ لها منَ الإعرابِ، والرابطُ محذوفٌ، والتقديرُ: يعملونه، و "خبيرٌ" خبرُ "إنَّ" مرفوعٌ، وجملةُ "إنَّه" تعليليَّةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قرأَ الجمهور: "إنَّ" بالتَّشْديدِ، وقرأَ نافِعٌ وابْنُ كَثيرٍ وأَبو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: "إنْ" بالتَّخْفيفِ.
وقرأَ الجمهور: "لمَا" بالتَخْفيفِ هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة الطارق، وقرأَها ابْنُ عامرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ، "لمَّا" مُشَدَّدَةً، إِلَّا أَنّهُ ورَدَ خلافٌ عَنِ ابْنِ عامرٍ في الزخرف: فرَوى عَنْهُ هِشامٌ وَجْهَيْنِ، وروَى عَنْهُ ابْنُ ذَكْوانَ التَّخفيفَ فَقَط. وتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا: أَنَّ نافعًا وابْنَ كَثيرٍ قرَآ: "إنْ" و "لَمَا" مُخَفَّفَتَيْنِ، وأَنَّ أَبا بَكْرٍ عَنْ عاصِم خَفَّفَ "إنَّ" وثَقَّلَ "لمَّا"، وأَنَّ ابْنَ عامِرٍ وحَمْزَةٌ وحَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ شَدَّدوا "إنَّ" و "لمَّا" مَعَا، وأَنَّ أَبَا عَمْرٍو والكِسائيُّ شَدَّدا "إنَّ" وخَفَّفا "لَمَّا". فهذِهِ أَرْبَعُ مَراتِبَ للقُرَّاءِ في هذَيْنِ الحَرْفَيْنِ. هذَا في المُتَواتِرِ، وأَمَّا في الشاذِّ، فقُرِئَ أَرْبَعُ قِراءاتٍ أُخَرُ:
إِحْدَاها: قِراءَةُ أُبَيٍّ والحَسَنِ وأَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ "وإنْ كلٌّ" بِتَخْفيفِها، ورَفْعِ "كلٌّ"، و "لَمَّا" بالتشديدِ،
الثانية: قراءَةُ اليَزيدِيِّ وسُلَيْمانَ بْنِ أَرْقَم: "لمَّاً" مُشَدَّدَةً مُنَوَّنَةً، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتَخْفيفِ "إنَّ" ولا لِتَشْديدِها.
الثالثة: قراءةُ الأَعْمَشِ، وهيَ في حَرْفِ ابْنِ مَسْعودٍ كذَلِكَ: "وإنْ كلٌّ إلَّا" بِتَخْفيفِ "إنْ" ورفعِ "كُلٌّ".
الرابعة: قالَ أَبو حاتمٍ: الذي في مُصْحَفِ أُبَيٍّ "وإنْ مِنْ كلٍ إِلّا لَيُوَفِّيَنَّهم".
هذا ما يَتَعَلَّقُ بِها مِنْ جِهَةِ التِلاوَةِ، وأَمَّا ما يَتَعَلَّقُ بِها مِنْ حيْثُ التَّخْريجُ، فقدِ اضْطَرَبتْ آراءُ النَّاسِ فيهِ اضطِّرابًا كَثيرًا، حَتَّى قالَ أَبُو شامَةَ: وأَمَّا هَذِهِ الآيةُ فمَعناها على القراءاتِ مِنْ أَشْكَلِ الآياتِ، وتَسْهيلُ ذلكَ بِعَوْنِ اللهِ أَنْ أَذْكُرَ كُلَّ قِراءَةٍ عَلَى حِدَتِها وما قيلَ فيها.
فأَمَّا قراءَةُ الحَرَمِيَّيْنِ ففيها إِعْمالُ إِنْ المُخَفَّفَةِ، وهيَ لُغَةٌ ثانيَةٌ عَنِ العَرَبِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: حَدَّثَنا مَنْ نَثِقُ بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ العَرَبِ مَنْ يَقولُ: "إنْ عَمْرًا لَمُنْطَلِقٌ" كما أنشدوا مِنَ الهَزَجِ:
وَوَجْهٍ حَسَنِ النَّحرِ .................................. كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
هذا البيتُ هُوَ مِنْ شَواهِدِ سِيبَوَيْهِ الخَمْسينَ التي لَمْ يُعْرَفْ قائلُها. قال: ووجهُهُ مِنَ القِياسِ أَنَّ "إنْ" مُشْبِهَةٌ الفِعْلَ في نَصْبِها، والفعلُ يَعْمَلُ مَحْذوفًا كَمَا يَعْمَلَ غَيْرَ مَحْذَوفٍ نَحوَ: "لَمْ يَكُ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا" و {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} سورة هود، الآية: 109، وكذَلِكَ "لا أَدْرِ". وهذا هو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، فإذا خُفِّفَ بعضُ هذِهِ الأَحْرُفِ جازَ أَنْ تَعْمَلَ وجاز أَنْ تُهْمَلَ، مثل "إنْ"، والأَكْثَرُ الإِهْمالُ، وقدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ في قولِهِ: {وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، وبَعْضُها يَجِبُ إِعْمالُهُ ك "أَنْ" بالفَتْحِ و "كأنْ"، ولكِنَّهُمَا لا يَعْمْلانِ في مُظْهَرٍ ولا ضَميرٍ بارِزٍ إِلَّا ضَرورةً، وبَعْضُها يَجِبُ إِهْمالُهُ عِنْدَ الجُمْهورِ كَ "لكن". وأَمَّا الكُوفِيُّونَ فَيُوجِبونَ الإِهْمالَ في "إنْ" المُخَفَّفَةِ، والسَّمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهم، بِدَليلِ هَذِهِ القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ. وقدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى إِعْمالِ هَذِهِ الحُروفِ مُخَفَّفَةً قولَ أَرَقَمِ بْنُ عَلْبَاءَ الْيَشْكُرِيِّ، مِنَ الطَويلِ:
وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ............ كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَم
قال الفرَّاءُ: لَمْ نَسْمَعِ العَرَبَ تُخَفِّفُ وتَعْمَلُ إلَّا مَعَ المُكَنَّى كَقَوْلِ يزيدِ بْنِ مفرغ:
فلو أَنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سَأَلْتِني ........ طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأَنْتِ صديقُ
قال: لأنَّ المُكَنَّى لا يَظْهَرُ فيهِ إِعْرابٌ، وأَمَّا مَعَ الظاهِرِ فالرَّفْعُ. وقد تَقَدَّمَ مَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيِهِ. وقولُ رؤبةَ بْنِ العَجَّاجِ:
ومعتَدٍ فَظٍّ غَليظِ القَلْبِ ...................... كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ غادرتُه مُجَدَّلًا كَالْكَلْبِ
هذا ما يَتَعَلَّقُ بِ "إنْ". وأَمَّا ما يتعلَّقُ ب "لَمَا" في هَذِهِ القِراءَةِ فاللامُ فيها هي لامُ "إنْ" الداخلةُ في الخَبَرِ. و "ما" يَجوزُ أَنْ تَكونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى "الذي" واقعةً على مَنْ يَعْقِلُ كما في قولِهِ تعالى في الآيةِ الثالثة من سورةِ النساءِ: {فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّساءِ} فوقعتْ "ما" على العاقِلِ. واللامُ في قولِهِ: "ليوفِّيَنَّهم" جوابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، والجملةُ مِنَ القَسَمِ وجَوابِهِ صِلَةُ الاسْمِ الموصولِ، والتقديرُ: وإنْ كلًّا لَلذينَ والله لَيُوفِينَّهم. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ هُنَا نَكِرَةً مَوْصوفَةً، وقد تقدَّمَ، والجملةُ القَسَمِيَّةُ وجَوابُها صِفَةٌ ل "ما" والتقديرُ: وإنْ كُلّاً لَخَلْقٌ أَوْ لَفَريقٌ واللهِ لَيُوَفِّيَنَّهم، والمَوصولُ وصِلَتُهُ، أَوِ المَوْصوفُ وصِفَتُهُ خَبَرٌ لِ "إنْ".
وقالَ بعضُهم: اللامُ الأُولى هِيَ المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، ولَمَّا اجْتَمَعَ اللامانِ، واتَّفَقا في اللَّفْظِ فُصِلَ بَيْنَهُما بِ "ما" كما فُصِل بالأَلِفِ بَيْنَ النونَيْنِ في "يَضْرِبْنانِّ"، وبيْنَ الهَمْزتَيْن في نحوِ: أَأَنْتَ. فظاهرُ هذه العبارةِ أَنَّ "ما" زائدةٌ هنا جِيءَ بِها للفَصْلِ إِصْلاحًا لِلَّفْظِ، وعِبَارَةُ الَفارِسِيِّ مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلَّا َأنَّهُ جَعَلَ اللامَ الأُولى لامَ "إنْ" فقال: العُرْفُ أَنْ تُدْخِلَ لامَ الابتداءِ عَلَى الخَبَرِ، والخَبَرُ هُنَا هُوَ القَسَمُ وفيهِ لامٌ تَدْخُلُ عَلى جوابِهِ، فلَمَّا اجْتَمَعَ اللامانِ، والقَسَمُ مَحذوفٌ، واتَّفَقا في اللَّفْظِ وفي تَلَقِّي القَسَمِ، فَصَلوا بَيْنَهُما كَمَا فَصَلوا بَيْنَ "إِنَّ" واللامِ.
وقد صَرَّح الزمخشريُّ بِذلِكَ فقال: واللامُ في "لَمَا" مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ و "ما" مَزيدَةٌ. ونَصَّ الحوفيُّ عَلى أَنَّها لامُ "إنْ". وقالَ أَبو شامةَ: واللامُ في "لَمَا" هيَ الفارِقَةُ بَيْنَ المُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقيلَةِ وبين النافِيَةِ. وفيه نَظَرٌ؛ لأَنَّ الفَارِقَةَ إِنَّما يُؤتَى بِها عِنْدَ التِباسِها بالنافِيَةِ، والالْتِباسُ إِنَّما يَجيءُ عِنْدَ إهْمالِها، نحوَ: إنْ زيدٌ لَقائمٌ. وهيَ هنا في هذه الآيةِ الكَريمَةِ مُعْمَلةٌ فَلا الْتِباسَ بالنَّافِيَةِ، فلا يُقالُ إِنَّها فارِقَةٌ.
فَتَلَّخَّصَ في كُلٍّ مِنَ اللامِ و "ما" ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُها: في اللامِ: أَنَّها للابْتِداءِ الداخِلَةِ عَلَى خَبَرِ "إنْ". الثاني: لامٌ مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. الثالثُ: أَنَّها جَوابُ القَسَمِ كُرِّرَتْ تَأْكيدًا. وفي "ما" أَحَدُها: أَنَّها مَوْصُولَةٌ. والثاني: أَنَّها نَكِرَةٌ. الثالثُ: أَنَّها مَزيدَةٌ للفَصْلِ بَيْنَ اللّامَيْنِ.
وأَمَّا قراءَةُ أَبي بَكْرٍ فَفيها أَوْجُهٌ، أَحَدُها: ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الفَرَّاءُ وجَماعَةٌ مِنْ نُحاةِ البَصْرَةِ والكُوفَةِ، وهوَ أَنَّ الأَصْلَ: (لَمِنْ ما)، بِكَسْرِ المِيمِ عَلَى أَنَّها "مِنْ" الجارَّةِ دَخَلَتْ عَلَى "ما" المَوْصُولَةِ، أَوِ المَوْصُوفَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ من قبلُ، أَيْ: لَمِنَ الذينَ واللهِ لَيُوَفِّيَنَّهم، أَوْ لَمِنْ خَلْقٍ واللهِ لَيُوَفِّيَنَّهم، فلَمَّا اجْتَمَعَتِ النُّونُ سَاكِنَةً قَبْلَ مِيم "ما" وَجَبَ إِدْغامُها فِيها فقُلِبَتْ مِيمًا، وأُدْغِمَتْ فَصَارَ في اللفْظِ ثلاثةُ أَمْثَالٍ، فخُفِّفَتْ الكَلِمَةُ بِحَذْفِ إِحْداها، فَصارَ اللَّفْظُ كَمَا تَرَى "لمَّا". قالَ نَصْرُ ابْنُ عَلِيٍّ الشيرازِيُّ: وَصَلَ "مِنْ" الجارَّةَ بِ "ما" فانْقَلَبَتِ النُّونُ أَيْضًا مِيمًا للإِدْغامِ، فاجْتَمَعَتْ ثلاثُ مِيماتٍ فَحُذِفَتْ إِحْداهُنَّ، فَبَقِيَ "لمَّا" بالتَّشْديدِ. قالَ: و "ما" هُنَا بِمَعْنَى "مَنْ" وهو اسْمٌ لِجَمَاعةِ النَّاسِ كَمَا قالَ تَعَالى: في الآيةِ الثانيةِ من سورة النساءِ: {فانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّساءِ} أَيْ مَنْ طابَ، والمَعْنَى: وإِنْ كُلًّا مِنَ الذينَ لَيُوَفِّيَنَّهم رَبُّكَ أَعْمالَهم، أَوْ جَمَاعَةَ لَيَوَفِّيَنَّهم ربُّكَ أَعْمالَهم. وقدْ عَيَّنَ المَهْدَوِيُّ المِيمَ المَحْذوفَةَ فقالَ: (حُذِفت الميمُ المكسورةُ، والتَّقديرُ: لَمِنْ خلقٍ لَيُوَفِّيَنَّهم.
الثاني: ما ذَهَبَ إِلَيْهِ المَهْدَوِيُّ ومَكِيٌّ وهوَ: أَنْ يَكونَ الأَصلُ: لَمَنْ ما بفتحِ ميمِ "مَنْ" عَلى أَنَّها مَوْصولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، و "ما" مَزيدَةٌ بعدَها فقال: فقُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا، وأُدْغِمَتْ في المِيمِ التي بَعْدَها، فاجْتَمَعَ ثَلاثُ ميماتٍ، فَحُذِفَتِ الوُسْطَى مِنْهُنَّ، وهيَ المُبْدَلَةُ مِنَ النُونِ، فقيلَ" "لَمَّا". وقدرهُ مكيّ: (وإنْ كلًّا لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربُّكَ أَعْمالَهم)، فتَرْجِعُ إِلى مَعْنَى القراءةِ الأُولى بالتَخْفيفِ، وهذا الذي حَكاَهُ أبو إسحاقٍ الزَّجَّاجُ عَنْ بَعْضِهم فقالَ: زَعَمَ بعضُ النَّحْوِيينَ أَنَّ أَصْلَهُ لمَنْ ما، ثمَّ قُلِبَتِ النُّونُ مِيمًا، فاجْتَمَعَتْ ثلاثُ مِيماتٍ، فَحُذِفَتِ الوُسْطَى قال: وهذا القولُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأنَّ "مَنْ" لا يَجوزَ حَذْفُ بَعْضِها لأَنَّها اسْمٌ عَلَى حَرْفَيْنِ.
وقال أبو جعفر النحاس: قالَ أَبو إسحاق الزجَّاجُ: هذا خَطَأٌ، لأنَّهُ تُحْذفُ النُّونُ مِنْ "مَنْ" فيَبْقَى حَرْفٌ واحِدٌ. وقدْ رَدَّهُ أبو عليٍّ الفارسيُّ أيْضًا فقال: إذ لم يَقْوَ الإِدْغامُ عَلى تَحْريكِ السَّاكِنِ قَبْلَ الحَرْفِ المُدْغَمِ في نَحوَ "قدم مَّالك" فأَنْ لا يجوزَ الحَذْفُ أَجْدَرُ. قال: عَلى أَنَّ في هَذِهِ السُورَةِ مِيماتٍ اجْتَمَعَتْ في الإِدْغامِ أَكْثَرَ ممَّا كانَتْ تَجْتَمِعُ في "لَمَنْ ما" ولمْ يُحْذَفْ مِنْها شَيْءٌ، وذَلِكَ في قولِهِ تَعَالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} سورة هود، الآية: 48، فإذا لم يُحْذَفْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فَأَنْ لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ. وقدِ اجْتَمَعَ في {أُمَمٍ ممَّن مَعَك} ثمانيةُ ميماتٍ وَذلِكَ أنَّ "أُممًا" فيها ميمان وتَنْوينٌ، والتَنْوينُ يُقْلَبُ مِيمًا لإِدْغامِهِ في مِيمِ "مِنْ" ومعنا نونانِ: نونُ "مِنْ" الجارَّةِ ونُونُ "مَنْ" المَوْصولَةِ فيُقْلَبَانِ أَيْضًا مِيمًا لإِدْغامِهِما في الميمِ بَعْدَهُما، و "معنا" ميم "مَعَكَ"، فحَصَّلَ مَعَنَا خَمْسُ ميماتٍ مَلْفُوظٌ بِها، وثلاثٌ مُنْقَلِبَةٌ إِحْداها عَنْ تَنْوينٍ، واثنَتانِ نُونٌ. واسْتَدَلَّ الفَرَّاءُ عَلى أَنَّ أَصْلَ "لَمَّا" هو "لمِنْ ما" بِقَوْلِ أبي حيَّةَ النُميريِّ:
وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ...... عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَم
وبقول الآخر:
وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه ......... إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ
وقدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ آلِ عُمْرانَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم} الآية: 81، بِتَشْديدِ "لمَّا" أَنَّ الأَصْلَ: (لمن ما" فَفُعِلَ فيهِ مَا تَقَدَّمَ، وهذا أَحَدُ الأَوْجُهِ المَذْكورَةِ في تَخْريجِ هَذَا الحَرْفِ في سُورَتِهِ.
وقالَ أَبو شامَةَ: وما قالَهُ الفَرَّاءُ اسْتِنْباطٌ حَسَنٌ وهوَ قَريبٌ مِنْ قولِهمْ أنَّ أَصْلَ قولِهِ تعالى في سورة الكهف: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} الآية: 38، "لَكنْ أَنَا"، ثمَّ حُذِفَتِ الهَمْزَةُ، وأُدْغِمَتِ النُّونُ في النُّونِ، وكَذا قولُهم: "أَمَّا أَنْتَ مُنْطَلِقًا انْطَلَقْتَ"، قالوا: المَعْنَى لأِنْ كُنْتَ مُنْطَلِقًا. وفيما قالَهُ نَظَرٌ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَذْفٌ البَتَّةَ، وإنَّما كان يَحْسُنُ التَنْظيرُ لَو أَنْ كان فيما جاءَ بِهِ إِدْغامٌ، ثمَّ حُذِفَ، وأَمَّا مُجَرَّدُ التَنْظِيرِ بالقَلْبِ والإِدْغامِ فغَيْرُ طائلٍ.
ثمَّ قالَ أَبو شامَةَ: وما أَحْسَنَ ما اسْتَخْرَجَ الشاهدَ مِنَ البَيْتِ. يَعْنِي الفَرَّاءَ، ثمَّ إنَّ الفَرَّاءَ أراد أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قراءتَيْ التَخْفيفِ والتَشْديدِ مِنْ "لمَّا" في معنًى واحدٍ فقالَ: ثُمَّ تُخَفَّفُ كَمَا قَرَأَ بَعْضُ القُرَّاءِ قولَهُ تعالى في سورة النحلِ: {والبَغْيِ يَعِظُكُمْ} الآية: 90. بحذْفِ الياءِ عِنْدَ الياءَ، وأنْشَدَني الكِسائيُّ:
وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا ................... لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا
فَحَذَفَ ياءَهُ لاجْتِماعِ الياءاتِ. والأَوْلى أَنْ يُقالَ: حُذِفَتْ يَاءُ الإِضافَةِ مِنْ "لَدَيّ" فبقِيَتِ الياءُ الساكِنَةُ قَبْلَها المُنْقَلِبَةُ مِنَ الأَلِفِ في "لدى" وهوَ مِثْلُ قراءةِ مَنْ قَرَأَ {يا بُنَيْ} بالإِسْكانِ على ما سَبَقَ، وأَمَّا الياءُ مِنْ "يَتَبَاشَرونَ" فثابِتَةٌ لِدَلالَتِها عَلَى المُضارَعَةِ. ثمَّ قالَ الفَرَّاءُ: ومثلُهُ:
كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ ...................... مَخْرِمَ نجدِ فارع المخارمِ
يُريدُ: إِلى القادِمِ، فحَذَفَ اللَّامَ عِنْدَ اللّامِ. وتوجيهُ قولِهم: "مِنْ آخِرِها إلقادم" أَنَّ أَلِفَ "إلى" حُذِفَتْ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وذَلِكَ أَنَّ أَلِفَ "إلى" ساكِنَةٌ، ولامُ التَّعريفِ مِنَ "القادِمِ" ساكنةٌ، وهَمْزَةُ الوَصْلِ حُذِفَتْ دَرْجًا، فلَمَّا الْتَقَيَا حُذِفَ أَوَّلُهُما فالْتَقى لامانِ: لامُ "إلى" ولامُ التَّعْريفِ، فحُذِفَتِ الثانِيَةُ عَلى رَأْيِهِ، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأَنَّ الثانيةَ دالَّةٌ عَلَى التَّعْريفِ لَمْ يَبْقَ مِنْ حَرْفِ "إلى" غيرُ الهَمْزَةِ فاتَّصَلَتْ بِلامِ "القادِمِ" فبَقِيَتِ الهَمْزَةُ عَلَى كَسْرِها، فلِهَذا تُلُفِّظَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ مِنْ آخرها: "ءِ القادِمِ" بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثابِتَةٍ دَرَجًا لأَنَّها هَمْزَةُ القَطْعِ. وهذا قَريبٌ مِنْ قولِهم "مِلْكَذِبِ" يريدون: مِنَ الكَذِبِ، قال مهرُ بْنُ كَعْبٍ من المنسرح:
أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً .................. غيرُ الذي قد يُقال مِلْكذب
أبو دَخْتَنوسَ هو لقيطُ بْنُ زُرارةَ التميميُّ، ودَخْنَتوسُ ابْنَتُهُ، وكان مجوسيًا، فسَمَّاها باسْمِ بِنْتِ كِسْرَى، وأصلُ السينِ شينٌ. والمَأْلُكَةُ: الرسالةُ.
وقالوا: "عَلْماءِ بَنَو فُلان" يُريدونَ: عَلَى الماءِ بَنُو فُلانٍ، قالَ الفَرَزْدَقُ:
فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ ........ ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ
و "بَلْعَنْبَرِ" يُريدونَ: بَنُو العَنْبَرِ. وقد رَدَّ بعضُهم قولَ الفَرَّاءِ بِأَنَّ نُونَ "مِنْ" لا تُحْذَفُ إِلَّا في ضَرورَةٍ وأَنْشَدَ أَيْضًا: ... مِلْكذبِ، شاهدًا عليه.
الثالث: أَنَّ أَصْلَها "لما" بالتَّخفيفِ ثمَّ شُدِّدَتْ، وإلى هذا ذَهَبَ أَبو عُثْمان. قالَ الزَّجَّاجُ: وهذا لَيْسَ بِشَيْءٍ لأَنَّا لَسْنَا نُثَقِّلُ ما كانَ عَلَى حَرْفَيْنِ، وأَيْضًا فَلُغَةُ العَرَبِ عَلى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ يُخَفِّفون ما كان مُثَقَّلًا نحوَ: "رُبَ" في "رُبَّ". وقيلَ في تَوجيهِهِ: إِنَّما يَكونُ في الحَرْفِ إذا كانَ آخِرًا، والميمُ هُنَا حَشْوٌ لأَنَّ الأَلِفَ بعدَها، إِلَّا أَنْ يُقالَ: إِنَّهُ أَجْرَى الحَرْفَ المُتَوَسِّطَ مُجْرَى المُتَأَخَّرِ كَقَوْلِ رَبيعَةَ بْنِ أَبي صُبْحٍ: أَوِ الْحَرِيقُ وَافَقَ الْقَصَبَّا، يريد: القَصَبَ، فلمَّا أَشْبَعَ الفَتْحَةَ تُوِلِّدَ مِنْها أَلِفٌ، وضَعَّفَ الحَرْفَ، وهذا الشَّطْرُ مِنْ مَقْطوعةٍ للراجِزِ، وقدْ نَسَبَها بَعْضُهم لِرُؤبَةَ بْنِ العَجَّاجِ أيضًا، وتَمامُها:
لَقَدْ خَشيتُ أَنْ أَرَى جَدَبَّا ................. في عامِنَا ذا بَعْدَ مَا أَخْصَبَّا
إنَّ الدَّبَا فَوْقَ الْمُتُونِ دَبَّا ....................... وهَبَّتِ الريحُ بِمَوْرٍ هَبَّا
تَتَرُكُ ما أبْقَى الدَّبَا سَبْسَبَّا ..................... كَأَنَّهُ السَّيْلُ إذَا اسْلَحَبَّا
أَوِ الْحَرِيقُ وَافَقَ الْقَصَبَّا ........................ وَالتِّبْنَ وَالْحَلْفَاءَ فَالْتَهَبَّا
وكَذَلِكَ قولُ مَنْظورِ بْنِ مَرْثَدٍ الأَسديِّ: (بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي)
وهو شطرٌ من بيتٍ للشاعرِ، وتمامُهُ:
نُسَلِّ وَجْدَ الهائمِ المُعْتَلِّ ....................... ببازِلٍ وَجْناءَ أَو عَيْهَلِّ
وقبلَهُ:
إِنْ تَبْخَلي يا جُمْلُ أَو تَعْتَلِّي ........... أَو تُصْبحي في الظَّاعِنِ المُوَلِّي
فقد شدَّدَ اللامَ مَعَ كَوْنِها حَشْوًا بِياءِ الإِطْلاقِ. وقد يُفَرَّقُ بِأَنَّ الأَلِفَ والياءَ في هذيْنِ البَيْتَيْنِ في حُكمِ المُطَّرِحِ، لأنَّهما نَشَآ مِنْ حَرَكَةٍ بِخِلافٍ أَلْفِ "لما" فإنَّها أَصْلِيَّةٌ ثابِتَةٌ، وبالجُمْلَةِ فهوَ وَجْهٌ ضَعيفٌ جِدًّا.
الرَّابعُ: أَنَّ أَصْلَها "لَمَّاً" بالتَنْوين ثمَّ بُنِيَ مِنْهُ "فَعْلى"، فإنْ جَعَلْتَ أَلِفَهُ للتَأْنيثِ لمْ تَصْرِفْهُ، وإنْ جَعَلْتَها للإِلْحاقِ صَرَفْتَهُ، وذلِكَ كما قالوا في "تَتْرى" بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أَي: جَمَعْتُه، والتقدير: وإنْ كلاً جميعًا لَيُوَفِّيَنَّهم، ويكون "جميعًا" فيه معنى التوكيد ك "كُل"، ولا شكَّ أن "جميعًا" يُفيدُ معنًى زائدًا على "كل" عندَ بعضِهم. قال: ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ "لمَّاً" بالتنوين.
الخامس: أن الأصلَ "لَمَّاً" بالتنوين أَيضًا، ثمَّ أَبْدلَ التنوينَ ألفًا وقفًا، ثمَّ أَجْرى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفَ. وقدْ مَنَع مِنْ هذا الوجهِ أَبو عُبيدٍ قال: لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر، يعني إبدالَ التنوين ألفًا وصلًا إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ "لَمَّاً" بالتنوين بعد ذلك.
وقالَ أَبو عَمْرو ابْنُ الحاجِبِ: استعمالُ "لَمَّا" في هذا المَعنى بَعيدٌ، وحَذْفُ التَنْوين مِنْ المُنْصَرِفِ في الوَصْلِ أَبْعَدُ، فإنْ قِيلَ: "لَمَّاً" على وزنِ "فَعْلى" مِنَ اللَّمِّ، ومُنِعَ الصَّرْفِ لأَجْلِ أَلِفِ التَأْنيثِ، والمَعنى فيه مِثلُ مَعنى "لمَّاً" المُنْصَرِفِ فهوَ أَبْعَدُ، إذْ لا يُعْرَفُ "لمَّا" على "فُعْلَى" بِهذا المَعْنَى ولا بِغَيْرِهِ، ثمَّ كانَ يَلزَمُ هؤلاءِ أَنْ يُميلوا كَمَنْ أَمالَ، وهو خلافُ الإِجماعِ، وأَنْ يَكتبوها بالياءِ، وليس ذلك بمُسْتَقيمٍ.
السادس: أَنَّ "لَمَّا" زائدةٌ كما تُزادُ "إلَّ" قالَهُ أَبو الفَتْحِ وغيرُهُ، وهذا وجهٌ لا اعتبار به فإنَّه مبنيٌّ على وجهٍ ضَعيفٍ أَيْضًا، وهو أنَّ "إلَّا" تَأْتي زائدةً.
السابع: أَنَّ "إنْ" نافيةٌ بمنزلةِ "ما"، و "لمَّا" بمعنى "إلَّا" فهي كقولِهِ تعالى في سورةِ الطارِقِ: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا} الآية: 4، أَيْ: ما كلُّ نفسٍ إلَّا عَلَيْها، وكقولِه في سورة الزخرُف: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} الآية: 35، أيْ: ما كلُّ ذلك إلَّا مَتَاع. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ "إنْ" النافيَة لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدَها، وهذا اسْمٌ منصوبٌ بعدَها. وأَجابَ بعضُهم عَنْ ذلك بأنَّ "كلًّا" منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابْنُ الحاجِبِ: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالًا مِنْ قراءةِ ابْنِ عامِرٍ لِقَبولِها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاسْتِبعادَ، وإنْ كان في نَصْبِ الاسْمِ الواقعِ بَعْدَ حَرْفِ النَّفْيِ اسْتِبْعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قولِ عَمْرِو بْنِ قِعاسٍ الْمرَادِيِّ:
أَلَا رجلًا جَزاهُ الله خَيْرًا ...................... يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ
هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّرٍ أَوْ نُوِّنٍ ضَرورةً؟ فاخْتَارَ الخَليلُ إِضْمارَ الفِعلِ، واخْتارَ يُونُسُ التَنْوين للضَّرورةِ، وقدَّرَهُ بَعْضُهم بَعْدَ "لمَّا" مِنْ لَفْظِ "ليُوَفِّينَّهم" والتَقديرُ: وإنْ كُلًّا إلَّا لَيُوَفِّيَنَّ لَيُوَفِّيَنَّهم. وفي هذا التَقديرِ بُعْدٌ كَبيرٌ أَوِ امْتِنَاعٌ؛ لأَنَّ ما بَعْدَ "إلَّا" لا يَعمَلُ فيما قبلَها. واسْتَدَلَّ أَصْحابُ هذا القولِ أَعْنِي مَجيءَ "لَمَّا" بِمَعْنَى "إلَّا" بِنَصِّ الخَليلِ وسِيبَوَيْهِ عَلى ذَلِكَ، ونَصَرَهُ الزَّجَّاجُ، قالَ بَعْضُهُم: وهيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، يَقولونَ: سَأَلْتُكَ باللهِ لمَّا فَعَلْتَ، أَيْ: إِلَّا فَعَلْتَ. وقد أَنْكَرَ الفَرَّاءُ وأَبو عُبَيْدٍ وُرودَ "لمَّا" بِمَعْنَى إِلَّا، قالَ: أَمَّا مَنْ شَدَّدَ "لمَّا" بِتَأْويلِ "إلا" فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لَزِمَهُ أَنْ يَقولَ: قامَ القومُ لمَّا أخاك. يُريدُ: إلَّا أَخاك، وهذا غيرُ مَوجودٍ البتة.
وقال الفراء: وأَمَّا مَنْ جَعَلَ "لَمَّا" بمنزلة "إِلَّا" فهو وجهٌ لا نَعْرِفُهُ، وقدْ قالتِ العَرَبُ في اليَمِنِ: بالله لمَّا قُمْتَ عَنَّا، و إلَّا قُمْتَ عَنَّا، فأَمَّا في الاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ نَقُلْهُ في شِعْرٍ ولا في غَيْرِهِ، أَلا تَرى أَنَّ ذَلِكَ لو جازَ لَسَمِعْتَ في الكلامِ: ذَهَبَ النَّاسُ لَمَّا زَيْدًا. بدلًا من "إِلّا زيدًا.
وقد أَنْكَرَ أَبو عُبَيْدٍ مَجيءَ "لمَّا" بِمَعْنَى "إلا" مُطْلَقًا، وجَوَّز الفَرَّاءُ ذلك في القَسَمِ خاصَّةً، وتَبِعَهُ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ في ذَلِكَ، فإنَّهُ قالَ في تَشْديدِ "لمَّا" في هذِهِ الآيَةِ: لا يَصْلُحُ أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى "إلّا" لأنَّ "لَمَّا" هذِهِ لا تُفَارِقُ القَسَمَ. ورَدَّ النَّاسُ قولَهُ بِما حَكاهُ الخَليلُ وسِيبَوَيْهِ، وبِأَنَّها لُغَةُ هُذَيْلٍ مُطْلَقًا، وفيهِ نَظَرٌ، فإنَّهم لَمَّا حَكَوُا اللُّغَةَ الهُذَيْلِيَّةَ حَكَوْها في القَسَمِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ نَحْوِ: نَشَدْتُك بالله لمَّا فَعَلْتَ. و "أَسْأَلُكَ بالله لمَّا فَعَلْتَ. وقالَ أَبو عَلِيٍّ أَيْضًا مُسْتَشْكِلًا، لِتَشْديدِ "لمَّا" في هذِهِ السُّورَةِ على تَقديرِ أَنَّ "لمَّا" بمَعْنَى "إلا" لا تَخْتَصُّ بالقَسَمِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ تَشديدَ "لمَّا" ضَعيفٌ سَواء شَدَّدْتَ "إن" أَمْ خَفَّفْتَ، قالَ: لأنَّهُ قدْ نُصِبَ بِها "كُلًّا"، وإذا نُصِبَ بالمُخَفَّفَةِ كانَتْ بِمَنْزِلَةِ المُثَقَّلَةِ، وكَمَا لا يَحْسُنُ أنْ يُقالَ: إِنَّ زَيْدًا إِلَّا مُنْطَلِقٌ، لأنَّ الإِيجابَ بَعْدَ نَفْيٍ، ولمْ يَتَقَدَّمْ "إِلَّا" هُنَا إيجابٌ مؤكَّدٌ، فَلِذا لا يَحْسُن قولُكَ: إِنَّ زَيْدًا لَمَّا مُنْطلقٌ، لأنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وإنَّما ساَغ قولُك: نَشَدْتُك اللهَ إلَّا فَعَلْتَ، ولَمَّا فَعَلْتَ. لأَنَّ مَعْنَاهُ الطَلَبُ، فَكَأَنَّهُ قالَ: مَا أَطْلُبُ مِنْكَ إِلَّا فِعْلَكَ، فحَرْفُ النَّفْيِ مُرادٌ، كما في قولِهِ تعالى في سورة يوسف: {تَالله تَفْتَؤُاْ} الآية: 85، ومَثَّلُه أَيْضًا قولُهُمْ: شَرٌ أَهَرُّ ذانابٍ. أَيْ: ما أَهَرَّهُ إِلَّا شَرٌّ، قالَ: وليسَ في الآيَةِ مَعْنَى النَّفْيِ ولا الطَلَبِ.
وقالَ الكِسائيُّ: لا أَعْرِفُ وَجْه التَثْقيلِ في "لمَّا". قالَ الفارِسِيُّ: ولم يُبْعِدْ فيما قالَ. ورُوِيَ عَنِ الكِسائيِّ أَيْضًا أَنَّهُ قالَ: اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَعْلَمُ بِهَذِهِ القِراءَةِ، لا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا.
الثامن: قال أبو إسحاق الزَجّاجُ: قالَ بَعضُهم قوْلًا ولا يَجوزُ غيرُهُ: إنَّ "لمَّا" في مَعْنَى إِلَّا، كقولِهِ تعالى في الآيةِ: 4، من سورةِ الطارِق: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ثمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِكَلامٍ طَويلٍ مُشْكِلٍ حاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلى أَنَّ مَعْنَى (إنْ زَيْدٌ لَمُنْطَلِقٌ): ما زَيْدٌ إلا مُنْطَلِقٌ، فَأُجْرِيَتِ المُشَدَّدةُ كَذَلِكَ في هذا المَعْنَى إذا كانَتِ اللامُ في خَبَرِها وعَمَلِها النَّصْبَ في اسْمِها باقٍ بحالِهِ مُشَدَّدَةً ومُخَفَّفَةً، والمَعْنَى نَفْيٌ بِ "إنْ" وإِثباتٌ باللَّامِ التي بِمَعْنَى "إلّا"، و "لَمَّا" بمَعْنَى إِلَّا.
وقدْ تقدَّم إِنْكارُ أَبِي عَلِيٍّ الفارسيُّ عَلَى جَوازِ "إلَّا" في مِثْلِ هَذا التَرْكِيبِ فَكيْفَ يَجوزُ "لمَّا" التي بِمَعْناها؟. وأَمَّا قراءَةُ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ وحَفْصٍ ففيها وجوهٌ:
أَحَدُها: أَنَّها "إنَّ" المُشَدَّدَةَ على حالِها، فلذلكَ نُصِبَ ما بَعْدَها عَلى أَنَّهُ اسْمُها، وأَمَّا "لمَّا" فالكَلامُ فِيها كَما تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الأَصْلَ "لَمِنْ ما" بالكَسْرِ أَوْ "لَمَنْ ما" بالفَتْحِ، وجَميعُ تِلْك الأَوْجُهِ التي ذَكَرْتُها تَعودُ هَهُنا. والقَوْلُ بِكَوْنِها بِمَعْنَى "إلَّا" مُشْكِلٌ كَما تقدَّمَ تحريرُهُ عَنْ أَبي عَلِيٍّ هُنا.
الثاني: قال المازنيٌّ: "إنَّ" هي المُخَفَّفَةُ ثُقِّلَتْ، وهيَ نافِيَةٌ بِمَعْنَى "ما" كَمَا خُفِّفَتْ "إنَّ" ومعناها المثقَّلَةِ، و "لَمَّا" بِمَعْنَى "إلا". وهَذا قولٌ لا اعتبارَ بِهِ، لأنَّه لم يُعْهَدْ تثقيلُ "إنْ" النافيةِ، وأَيْضًا فَإنَّ "كلًّا" منصوبٌ بعدَها، والنافيةُ لا تَنْصِبُ.
الثالثُ: أَنَّ "لَمَّا" هُنَا هِيَ الجازِمَةُ للمُضارِعِ، حُذِفَ مَجزومُها لِفَهْمِ المَعْنَى. قال الشيخُ أَبو عَمْرِو ابْنُ الحاجِبِ في (أَمالِيه): "لمَّا" هَذِهِ هِيَ الجازِمَةُ فحُذِفَ فِعْلُها للدَّلالَةِ عَلَيْهِ، لِمَا ثَبُتَ مِنْ جَوازِ حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: (خَرَجْتُ ولمَّا) و (سافرتُ ولمَّا) وهوَ شائعٌ فَصيحٌ، ويَكونُ المَعْنَى: وإنَّ كُلًّا لَمَّا يُهْمَلوا أَوْ يُتْرَكوا، لِما تَقَدَّم مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصيلِ المَجْموعَيْنِ بِقَوْلِهِ قبل ذلك في الآية: 105، من هذه السورة المباركةِ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، ثمَّ فَصَّلَ الأَشْقِيَاءَ والسُّعَداءَ، ومُجازاتَهم، ثمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هنا: "لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ"، قالَ: وما أَعْرِفُ وَجْهًا أَشْبَهَ مِنْ هَذَا، وإِنْ كانَتِ النُفوسُ تَسْتَبْعِدُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَرِدْ في القرآنِ، ثمَّ قال: والتحقيقُ يَأْبَى اسْتِبعادَهُ.
وقد نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ "لمَّا" يُحْذَفُ مَجْزومُها باطِّرادٍ، قالوا: لأَنَّها لِنَفْيِ "قدَ فَعَلَ"، وقد يُحذفُ بَعدَها الفِعْلُ كما في قولِ النابِغَةِ الذُبيانِيِّ:
أَزِفَ التَرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكابَنا ................... لَمَّا تَزُلْ بِرِحالِنا وكَأَنْ قَدِ
فنَفَى بِ "لمَّا" ثمَّ قالَ: وكأَنْ قَدِ، أَيْ: وكَأَنَّهُ قَدْ زَالَتْ، فَكذا مَنْفِيُّهُ.
وممَّن نَصَّ عليْهِ الزَمَخشَريُّ عَلى حَذْفِ مَجزومِها، وأَنْشَدَ "يعقوب" على ذَلِكَ في كِتَابِه "معاني الشِّعْرِ: قولَ الشاعر:
فجِئْتُ قُبُورَهمْ بَدْءً ولمَّا .................... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ
قال: قولًهُ "بَدْءً"، أَيْ: سَيْدًا، فبَدْءُ القومِ سَيِّدُهم، وبَدْءُ الجَزْورِ خيرُ أَنْصِبائها، قال: وقولُهُ "ولما"، أَيْ: ولمَّا أَكُنْ سَيِّدًا إِلاَّ حِينَ ماتوا فإني سُدْتُ بَعْدَهم، وهو كقولِ التابعيِّ حارثةَ بنُ بدرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ:
خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ............ ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ
وقد تمثَّل به سفيانُ بْنُ عُيينةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لمّا مات مِنْ حَوْلِهِ أقرانُهُ مِنَ العلَمَاءِ وتكاثرُ الناسُ عليه وبعدَه:
ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا .......... ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ غَيْرُ السَّيِّد
قال: ونظيرُ السُّكوتِ على "لمَّا" دونَ فعلِها السُّكوتُ على "قد" دونَ فعلِها في قولِ النَّابِغَةِ: أَزِفَ التَّرَحُّلُ في البيتِ السابقِ.
وهذا الوجهُ لا خصوصيَّةَ لَهْ بِهَذِهِ القِراءَةِ، بَلْ يَجيءُ في قراءةِ مَنْ شَدَّدَ "لمَّا" سَواءً شَدَّدَ "إن" أَوْ خَفَّفَها.
وأَمَّا قراءةُ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ والكِسائيِّ فواضِحَةٌ جِدًّا، فإنَّها "إنَّ" المُشَدَّدَةِ عَمِلَتْ عَمَلَها، واللامُ الأُولى لامُ الابْتِداءِ الداخِلَةِ عَلَى خَبَرِ "إنَّ"، والثانيةُ جوابُ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: وإنَّ كُلًّا للذين واللهِ لَيُوفِّينَّهم، وقد تقدَّمَ جوازُ وُقوعِ "ما" على العُقلاءِ مُقرَّرًا، ونَظيرُ هذِهِ الآيةِ قولُهُ تعالى في سورة النساءِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} الآية: 72، غيرَ أَنَّ اللامَ في "لمَنْ" داخلةٌ على الاسْمِ، وفي "لمَّا" داخلة على الخبر. وقال بَعْضُهم: «ما» هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في «لَمَا» موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الزمر: 65، والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقالَ الفَرَّاءُ عِنْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ القراءةَ: جَعَل "ما" اسمًا للنَّاسِ كَما جازَ {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} سورة النساء، الآية: 3، ثمَّ جَعَلَ اللامَ التي فيها جوابًا ل "إِنَّ"، وجعلَ اللامَ التي في "ليوفِّيَنَّهم" لامًا دَخَلَتْ على نِيَّةِ يَمينٍ فيما بيْنَ "ما" وصِلَتِها كَما تَقولُ: هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ، و "عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه. ومثلُهُ قولُهُ في سورة النساءِ: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} الآية: 72. ثمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلى أَنَّ اللامَ مَكْررَةٌ فقال: إذا عَجَّلَتِ العَرَبُ باللامِ في غَيْرِ مَوْضِعِها أَعادُوها إِلَيْهِ نَحْوَ: إنَّ زيدًا لإِلَيْكَ لَمُحْسِنٌ، ومِثْلُهُ من الطويل:
ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أَعِزَّةً ............ لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا
قال: أَدْخَلَها "اللامَ" في "بَعْد"، وليسَ بِمَوْضِعِها، وسَمِعْتُ أَبَا الجَرَّاحِ يَقولُ: إِنّي لَبِحَمْدِ اللهِ لَصالِحٌ. وقال أبو عليٍّ الفارِسِيُّ في تَوجيهِ هذِهِ القراءَةِ: وجهُها بيِّنٌ وهوَ أَنَّهُ نَصَبَ "كُلًّا" بإِنَّ، وأَدْخَلَ لامَ الابْتِداءِ في الخَبَرِ، وقدْ دَخَلَتْ في الخَبَرِ لامٌ أُخْرَى، وهيَ التي يُتَلَقَّى بِهَا القَسَمُ، وتَخْتَصُّ بالدُخولِ عَلى الفِعْلِ، فلَمَّا اجْتَمَعَتِ اللامانِ فُصِلَ بَيْنَهُما كَما فُصِلَ بَيْنَ "إنَّ" واللامِ، فدخَلَتْها وإنْ كانَتْ زائدةً للفَصْلِ، ومِثْلُهُ في الكلامِ: إِنَّ زَيْدًا لَمَا لَيَنْطَلِقَنَّ.
هذا ما تلخَّصَ في القراءات الأربعِ المتواترةِ، وأَمَّا القِراءاتُ الشَّاذَّةُ فأَوَّلُها قراءةُ أُبَيٍّ ومَنْ تَبِعَهُ "وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا" بتخفيفِ "إنْ" ورفعِ "كل" عَلى أنَّها "إنْ" النافيةُ، و "كلٌّ" مبتدأٌ، و "لمَّا" مشدَّدَةٌ بمَعْنَى "إلَّا"، و "لَيُوَفِّيَنَّهم" جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، وذَلِكَ القَسَمُ وجَوابُهُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. وهيَ قراءةٌ جَلِيَّةٌ واضِحَةٌ كَما قرَأوا كُلُّهم في سورة يس: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لديْنا مُحْضَرون} الآية: 32، ومثلُهُ في سورة الزُخرُف: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياةِ الدنيا} الآية: 35، ولا الْتِفاتَ إلى قَوْلِ مَنْ نَفَى أنَّ "لمَّا" بمنزلَةِ "إلاَّ" فقد تقدَّمَتْ أَدِلَّتُه.
وأَمَّا قراءَةُ اليَزيديِّ وابْنِ أَرْقَمَ "لَمَّاً" بالتَّشديدِ مُنَوَّنَةً ف "لمَّاً" فيها مصدرٌ مِنْ قولهم: "لَمَمْتُه" أَي: جمعتُه لَمَّاً، ومنه قولُه تعالى في سورة الفجر: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} الآية: 19، ثمَّ في تَخْريجِهِ وجْهَانِ اثنانِ:
أَحَدُهُما ما قالَهُ أَبُو الفَتْحِ عثمانُ بْنُ جِنّي، وهوَ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: "ليوفينَّهم" عَلَى حَدِّ قولِهم: قيامًا لأَقومَنَّ، وقعودًا لأَقْعُدَنَّ. والتقديرُ: تَوْفِيَةً جامِعَةً لأَعْمالِهم لَيُوَفِّيَنَّهم، يَعْني أَنَّهُ مَنْصوبٌ عَلى المَصْدَرِ المُلاقي لِعامِلِهِ في المَعْنَى دونَ الاشْتِقاقِ.
وثانيهما: ما قالَهُ أَبو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ وهوَ: أَنْ يَكونَ وَصْفًا ل "كل" وصفًا بالمَصْدَرِ مُبَالَغَةً، وعَلى هذا فيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ المُضافُ إِلَيْهِ " كل" نَكِرَةً لِيَصِحَّ وَصْفُ "كُل" بالنَّكِرَةِ، إذْ لَوْ قُدِّرَ المُضافُ مَعْرِفَةً لَتَعَرَّفَتْ "كل"، ولو تَعَرَّفَتْ لامْتَنَعَ وَصْفُها بالنَّكِرَةِ فلِذلِكَ قُدِّرَ المُضافُ إِلَيْهِ نَكِرَةً، ونَظِيرُ ذَلِكَ قولُهُ تَعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراثَ أَكْلاً لَّمّاً} وقد تقدَّمَ، فَوَقَعَ "لمَّا" نَعْتًا ل "أكلاً" وهوَ نَكِرَةٌ. قال أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ: ولا يجوزُ أَنْ يَكونَ حالًا لأَنَّهُ لا شَيْءَ في الكَلامِ عامِلٌ في الحالِ.
وظاهرُ عِبارَةِ الزَمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ تَأْكيدٌ تابعٌ ل "كلًّا" كَمَا يَتْبَعُها "أجمعون"، أَوْ أَنَّهُ مَنْصوبٌ عَلَى النَّعْتِ لِ "كلًّا" فإنَّه قالَ: "وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ" كقولِهِ "أَكْلًا لَمَّاً" أي: مَلْمومينَ بِمَعْنى مَجْموعِينَ، كَأَنَّهُ قيلِ: وإِنْ كُلًّا جَميعًا، كقولِهِ تَعالى في سورةِ الحِجْرِ: {فَسَجَدَ الملائكةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} الآية: 30. والزمخشريُّ لا يُريدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَأْكيدٌ صِنَاعيٌّ، بَلْ فَسَّرَ مَعْنَى ذَلِكَ، وأَرادَ أَنَّهُ صفةٌ ل "كُلًّا"، ولِذلك قَدَّرَهُ بِ "مَجْموعِينَ". وقد تَقَدَّمَ في بعضِ توجيهاتِ "لَمَّا" بالتَشْديدِ مِنْ غَيْرِ تَنْوينٍ أَنَّ المُنَوَّنَ أَصْلُها، وإنَّما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوَقْفِ، وقدْ عُرِفَ ما فِيهِ. وخبرُ "إنْ" عَلَى هذِهِ القِراءَةِ هِيَ جُمْلَةُ القَسَمِ المُقَدَّرِ وجَوابُهُ سَواءً في ذَلِكَ تَخْريجُ أَبي الفَتْحِ ابنِ جنيٍّ وتَخْريجُ شَيْخِهِ.
وأَمَّا قِراءَةُ الأَعْمَشِ فَواضِحَةٌ جِدًّا، وهيَ مُفَسِّرَةٌ لِقِراءَةِ الحَسَنِ المُتَقَدِّمَةِ، لولا ما فيها مِنْ مُخالَفَةِ سَوادِ الخَطِّ.
وأَمَّا قراءَةُ ما في مُصْحَفِ أُبَيٍّ كَمَا نَقَلَها أَبو حاتمٍ الرازيُّ ف "إنْ" فيها نافيَةٌ، و "مِنْ" زائدةٌ في النَّفْيِ، و "كل" مُبْتَدَأٌ، و "ليوفِّينَّهم" مَعَ قَسَمِهِ المُقَدَّرِ خَبَرُها، فَتَؤُولُ إلى قِراءَةِ الأَعْمَشِ التي قبلَها، إِذْ يَصيرُ التَقْديرُ بدون "مِنْ": وإنْ كُلٌّ إِلا لَيُوَفِّيَنَّهم.
والتَنْوينُ في "كُلًّاً" هو عِوَضٌ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ، أيْ: وإنَّ كُلَّهم، أو "وإنَّ جَميعَ المُخْتَلِفينَ فيه. وقد تقدَّمَ أَنَّهُ عَلى قراءَةِ "لَمَّاً" بالتَنْوينِ في تَخْريجِ أَبي عَلِيٍّ الفارسيِّ لَهُ لا يُقَدَّرُ المُضافُ إِلَيْهِ "كُل" إلَّا نَكِرَةً لأَجْلِ نَعْتِها بالنَكِرَةِ.
وقد تَضَمَّنَتْ هذِهِ الآيةُ الكَريمَةُ مِنَ التَأْكِيدِ، مالم يتضمَّنه غيرُها، وذلكَ للتشديدِ على وَعْدِ اللهِ تعالى للمؤمنين، ووعيدِه للعاصين، فمِن ذلك: التَأكيدُ بِ "إنَّ" و ب "كل" وبِلامِ الابْتِداءِ الداخِلَةِ عَلَى خَبَرِ "إنَّ" "ليوفيَنَّهم" وزيادةِ "ما" على رَأْيٍ، وبِالْقَسَمِ المُقَدَّرِ، وباللامِ الوَاقِعَةِ جَوابًا لَهُ، وبِنُونِ التَوْكِيدِ، وبِكَوْنِها مُشَدَّدَةً، وبإردافِها بالجُمْلَةِ التي بعدَها مِنْ قولِهِ: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وقرأ العامَّةُ: {بما يَعْمَلُون} بياءِ الغَيْبَةِ، وذلك جَرْيًا على ما تقدَّمَ مِنَ المُخْتَلِفِينَ. وقرأَ ابْنُ هرمُزٍ "بما تعملون" بتاءِ الخِطابِ، فيَجوزُ أَنْ يَكونَ الْتِفاتًا مِنْ غَيْبَةٍ إلى خَطابٍ، ويَكونُ المُخاطبونَ هُمُ الغَيْبُ المُتَقَدِّمون، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ الْتِفاتًا إلى خِطاب ِغيْرِهم.