يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
(105)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يبيِّن لنا سبحانه حقيقة إخضاعِ الجوارح لإرادتِنا في الدنيا، وقد يَسْلِبُ هذا الإذنَ متى شاءَ فلا تَنْفَعِلُ الجَوارَحُ. وَحِينَ يَأْتِي يَوْمُ القِيَامَةِ بِأَهْوالِهِ، ويُحشرُ الخلق للحسابِ والجزاءِ يُسْلَبُ النَّاسُ الكَثيرَ مِنَ الصِّفاتِ التي كانَتِ القُدْرَةُ الإلهيةُ تُمِدُّهم بها في الحيَاةِ الدنيا، ليعلموا ويعملوا ويعمروا الأرضَ، التي اسْتُخلِفوا فيها، ومن هذه الصفاتِ صفةُ الإرادةِ، والنُطقِ كَمَا يَهْوى، فقد كانوا يتكلَّمونَ في الحياةِ الدُنْيا بِطَلاقَةِ القُدْرَةِ التي أمَدَّهم بها اللهُ ـ سُبْحانَه وتعالى، حينَ أَخْضَعَ لَهم جَوارِحَهم، وجَعَلَ الحَقُّ سُبْحانَهُ الجَوارِحَ تأتمرُ بِأَمْرِ الإنْسانِ، فكلُّ كلِمَةٍ يَتَفَوَّهُ بها تُسَجَّلُّ عَلَيْهِ في سِجِلِّ دقيقٍ، لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً، يسجِّلُها عليه رَقيبٌ مِنَ المَلائكةِ وعَتيدٌ، قال تعالى في سورة ق: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} الآية: 18، ويأتي يومَ القيامة فيعطى سِجلَّهُ هذا فيجدُه مليئًا بكلِّ دقيقةٍ وجليليةٍ مما قالَ وعَمَلَ فواخوفاه وواخجلتاه منك يا رَبَّ العالمين: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} سورة الكهف، الآية: 49، لِيُحاسَبَ عَلى كلِّ كَلَّم، وكلِّ فعلٍ، فإنَ تكلَّمَ بالخيرِ، وعملَ الخيرَ فوافرحتاه، وإنْ كان غيرُ ذلك فواكرباه وواخسارتاه. وفي اليومِ الآخِرِ، لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِإذْنِ اللهِ، ليُقِرَّ بِذَنْبِهِ ويَعْتَرِفَ بِما فعلته جوارحُهُ وجَنَتْهُ يَداه. وحَيْثُ وَرَدَ الْمَنْعُ مِنَ الْكَلَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَابَاتِ الْحَقِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ. ثمَّ إنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَلَهُ مَوَاقِفُ، فَقد يكونون يُجَادِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا يَكُفُّونَ عَنِ الْكَلَامِ، وَقد يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضٍ منها، وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ فِي بَعْضِهَا الآخر. وفي الصحيحين عَنْ سيدِنا رسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حديثِ الشَّفاعَةِ الطَويلِ: ((ولا يَتَكَلَّمُ يَومَئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
قولُه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} الظَاهِرُ أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ والْمُرَادُ مَنْ يُحْشَرُ مِمَّنْ أُطْلِقَ لِلْحِسَابِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَمْعِ الذي سَلَفَ ذِكْرُهُ وتقدَّمَ الحديثُ عنه، مَنْ هو شَقِيٌّ بِمَا يَنْتَظِرُهُ مِنَ سوء العقاب وأشدِّ العَذَابِ، وَمِنْهُمْ من هو سَعِيدٌ بِمَا أُعِدَّ لهُ مِنَ أسبابِ السعادةِ وألوانِ النَّعِيمِ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لعبادِهِ الطائعين له الْمُتَّقِينَ. وقد جاءَ الحقُّ ـ سبحانهُ بالاسْمِ: "شقي" و "سعيد" لِما يفيدُه الاسمُ من ثبوتٍ، فالشَّقاءُ ثابتٌ لِمَنْ نُعِتَ به، وكذلك السَّعادةُ فإنَّها ثابتَة لِمَنْ نُعِتَ بها.
أَمَّا المَجَانِينُ وَالأَطْفَالُ فَهُمْ خَارِجُونَ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ. لِأَنَّهُمْ لَا يُحَاسَبُونَ وقد اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْقِيَامَةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ثَوَابُهُ زَائِدًا أَوْ يَكُونَ عِقَابُهُ زَائِدًا، فَأَمَّا مَنْ كَانَ ثَوَابُهُ مُسَاوِيًا لِعِقَابِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّصَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَمْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ يَا عُمَرُ وَجَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)). ورواهُ أَبو يَعْلى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ: عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أبيه عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ ـ رضي اللهُ عنهم، ورواهُ التِرْمِذِيُّ في سُنَنِه برقم: (3111) وقالَ: "هذا حديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ. وَأخرجهُ أَيضًا ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْن أبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخ، وَابْنُ مِرْدُوَيْه.
قولُهُ تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يَوْمَ: مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ متعلِّقٌ بِالفعلِ "تَكَلَّمُ" الآتي بعدَه، والتقدير: لا تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلكَ اليوم. ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِ "واذْكُرْ" مُقَدَّرًا. ويجوزُ: أَنْ يَنْتَصِبَ بالانْتِهاءِ المَحْذوفِ في قولِهِ: "إلَّا لأَجَلٍ"، أيْ: يَنْتَهي الأَجَلُ يَومَ يَأْتي. وقيل: يجوزً أنْ يَنْصِبَ بِ "لا تَكَلَّمُ" مُقَدَّرًا، ولا حاجةَ إليْهِ. و "يَأْتِ" فِعْلٌ مُضارعٌ، مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى الياءِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ في اللَّفْظِ، واتِّبَاعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ العُثْمانِيِّ في الخَطِّ مَنَعَ مِنْ ظُهورِها الثِّقَلُ، لأَنَّهُ فعلٌ مُعْتَلُّ الآخِرِ بالياءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا يَعودُ على اليوْمِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "يوم" إليها. و "لَا تَكَلَّمُ" لا: النافيَةُ لا عَمَلَ لها، و "تكلَّمُ" فعلٌ مضارعٌ حُذِفَتْ إحدى تاءَيْهِ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، و "نَفْسٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "إِلَّا" أداةُ حَصْرٍ، أَوْ أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "بِإِذْنِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُضافٌ مُتَعَلِّقٌ بـِ "تَكَلَّمُ" والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. وفي قَوْلِهِ: "لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ" وفيه حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِه. وجُمْلةُ قولِهِ: "لا تَكَلَّمُ» في محلِّ نَصْبٍ عَلَى الحالِ مْنْ ضَميرِ اليومِ المُتَقَدِّمِ في "مشهودٍ"، أَوْ تكونُ نَعْتًا لهُ لأنَّهُ نَكِرَةٌ. والتَقْديرُ: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ فِيهِ إِلَّا بإذْنِهِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: " يَصِحُّ أَنْ تَكونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَميرِ الذي في "يأتي" وهوَ العائدُ عَلَى قولِهِ: "ذَلِكَ يومٌ"، وبناءً على ذلك يَكونُ العائدُ محذوفًا تقديرُهُ: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه، ويَصِحُّ أَنْ يَكونَ قولُهُ: "لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ" صفةً لِقَوْلِهِ: "يوم يأتي". والأظهرُ أنَّ فاعِلَ "يَأْتي" هو ضميرُ "يوم" المُتَقَدِّمِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ الله تعالى كما في قولِهِ: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ} الآية: 210، منْ سورةِ البقرةِ، وكقَوْلِهِ في سورة الأنعامِ: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} الآية: 108. وكالضَمِيرِ في قولِهِ: "فمنهم" الظاهرِ عَوْدُه على النَّاسِ في قولِهِ تعالى: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ}. وجعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عائدًا عَلَى أَهْلِ المَوْقِفِ، وإنْ لَمْ يُذْكَروا، قال: لأنَّ ذَلِكَ مَعْلومٌ؛ ولأنَّ قولَهُ: "لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ" يَدُلُّ عَلَيْهِ، وكذا قالَ ابْنُ عَطِيَّة.
قولُهُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} الفاءُ: هي الفَصيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شَرْطٍ، تقديرُهُ: إذا عَرَفْتُمْ أَنَّهُ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ طَبَقاتِ النَّاسِ، وأَحْوالَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ، فأَقُولُ لَكَمْ: "مِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ". و "مِنْهُمْ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. و "شَقِيٌّ" مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لجوابِ إذا المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ إذا المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وسَعِيدٌ" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "سَعيدٌ" مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ خَبَرُهُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: ومِنْهُم سَعيدٌ، والجُمْلَةُ مَعطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ". والضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ "فَمِنْهُمْ" يعودُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ وَلَمْ يُذْكَرْ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ "لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ" يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: {مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} الآية: 103، السابقة مِنْ هذه السُّورةِ.
وقرأَ أَبو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ والكسائيُّ ونافعٌ "يأتي" بإثباتِ الياءِ وصْلًا وحَذْفِها وَقْفًا. وقرَأَ ابْنُ كَثيرٍ بإثباتِها وصْلًا ووَقْفًا، وباقي السَّبْعَةِ قرَؤوا بِحَذْفِها وَصْلًا وَوَقْفًا. وقدْ وَرَدَتْ المَصاحِفُ بإثباتِها وحَذْفِها: ففي مُصْحَفِ أُبَيٍّ إِثْباتُها، وفي مُصْحَفِ عُثْمانَ حَذْفُها، وإثباتُها هوَ الوَجْهُ لأَنَّها لامُ الكَلِمَةِ وإِنَّما حَذَفوها في القوافي والفَواصِلِ لأنَّها مَحَلُّ وُقوفٍ وقالوا: لا أَدْرِ، ولا أُبالِ. والاجتزاءُ بالكسرَةِ عنها كَثيرٌ في لُغَةِ هُذَيْلٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ "لَا أَدْرِ" حَكَاهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ. ومِنْ ذَلِكَ:
كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهمًا ............ جُوْداً وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما
ما تَليقُ؛ أيْ: ما تُمْسِكُ، لكرَمِهِ وجودِه. ومَوْضِعُ الشاهِدِ فيهِ "تُعْطِ" فحذفَ ياءَهُ والأَصْلُ تُعْطي، فاكْتَفى بالحَرَكَةِ مِنَ الحَرْفِ اخْتِصارًا.