وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
قولُهُ ـ جَلَّ وعلا: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ومَا ظَلَمْنَاهمْ لَمَّا أَهْلَكْناهم، ولكنَّهم همُ الذين ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم بكفرهم بربِّهم، وعصيانهم لأنْبْيائهم، واقترافهم الكبائرَ، وسائر أنواعِ المعصيةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَظْلِمْهُمُ اللهُ تَعَالَى لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ كانَ جَزَاءً عَنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ إِذْ جَرُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الْعَذَابَ، وأوردوها مواردَ الهلاك. وأخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ البغداديِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ" قَالَ: نَحْنُ أَغْنَى مِنْ أَنْ نَظْلِمَ.
قولُهُ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} فمَا نَفَعَتْهم آلهَتُهمْ التي اتّخذوها من دونِ اللهِ، مُعَلِّقينَ آمالَهم عَلَيْها، في نَفْعِهم وضُرِّهم، في رِزْقِهم، وإبْعادِ الشُّرورِ عَنْهم، فمَا رَفَعَتْ بَأْسَ اللهِ تَعَالى عَنْهم، ولا دَفَعَتْ عذابَهَ ومقتَهُ لَهم، وانتقامَهُ منهم. وَأَخْرَج أَبُو الشَّيْخ عَنْ أَبي عَاصِم الضَّحَّاكُ بنُ مَخْلَدٍ الشَّيْبَانِي، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم" قَالَ: مَا نَفَعَتْ.
قولُهُ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} التَّتْبِيبُ: مَصْدَرُ تَبَبَهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي التِّبَابِ وَهُوَ الْخَسَارَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ زَادَتْهُمْ تَتْبِيبًا لَمَّا جَاءَ أَمْرُ اللهِ، لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْفِعْل المقيَّدِ بِ لَمَّا التَّوْقِيتِيَّةِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتِ مَجِيءِ أَمْرِ اللهِ وَهُوَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَا زادوهم غير تَتَبيبٍ" يَعْنِي: غَيْرَ تَخْسيرٍ. وَأخرجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـرضي اللهُ عنه، مثلَ ذلك. وَأَخرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، قال: "وَمَا زادوهم غيرَ تَتْبيبٍ" أَيْ: هَلَكَة. وَأَخرجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قولَهَ: "وَمَا زادوهم غيرَ تَتْبيبٍ" قَالَ: وَمَا زادوهم إِلَّا شَرًّا. وَقَرَأَ {تَبَّتْ يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ} سورة المَسَدِ، الْآيَة: 1، وَقَالَ: التَبُّ: الخُسْرانُ والتَّتْبيبُ مَا زادوهم غَيْرَ خُسْرانٍ، وقَرَأَ: {ولَا يَزِيدُ الْكَافرينَ كُفْرُهم إِلَّا خَسَارًا} سورة فاطِر: 39.
وَفي هذِهِ الجُمْلَةِ عِلَاوَةٌ وَارْتِقَاءٌ عَلَى عَدَمِ نَفْعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إليهم، فلَمْ يَكُنْ شَأْنُهُمْ عَدَمَ الْإِغْنَاءِ عَنْهُمْ فَحَسْبُ، وَإنَّما زَادَتْهُمْ خُسْرَانًا، أَيْ أَسْبَابَ الْخُسْرَانِ. وَوَجْهُ هذه الزِيَادَةِ أَنَّ طَمَعَهم في إِنْقَاذِها إِيَّاهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ حَالَتْ بينَهم وبينَ التَّوْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِهمُ الْوَعِيدَ بِالْعَذَابِ مِنَ اللهِ تعالى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُشَارِكَةِ فِي الصِّفَةِ دُونَ قَيْدِهَا، أَيْ زَادُوهُمْ تَتْبِيبًا قَبْلَ مَجِيءِ أَمْرِ اللهِ بِأَنْ زَادَهُمُ اعْتِقَادُهُمْ فِيهَا انْصِرَافًا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ الرُّسُلِ وَزَادَهُمْ تَأْمِيلُهُمُ الْأَصْنَامَ، وَقَدْ كَانَتْ خُرَافَاتُ الْأَصْنَامِ وَمَنَاقِبُهَا الْبَاطِلَةُ مُغْرِيَةً لَهُمْ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالضَّلَالِ وَانْحِطَاطِ الْأَخْلَاقِ وَفَسَادِ التَّفْكِيرِ جُرْأَةً عَلَى رُسُلِ اللهِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللهِ الْمُسْتَوْجِبُ حُلُولَ عَذَابه بهم.
قولُهُ تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الواو: حرفُ عطف، و "ما" نافيَةٌ لا عملَ لها. و "ظَلَمْنَاهُمْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "هم" ضميرُ الغائبين متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ هذا عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى بِاعْتِبَارِ أَهْلِهَا لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ. وقيلَ: عائدٌ لأهل القُرَى على تقديرِ مُضافٍ، أَيْ ذَلِكَ مِنْ أَنْباءِ أَهْلِ القُرَى؛ ومِنَ الضَّمائِرِ ما يَعُودُ إِلَى المُضافِ. ومِنْها ما يَعُودُ إلى المُضافِ إِلَيْهِ، ومَتَى وَضَحَ الأَمْرُ جازَ ذلك.
وقيلَ: القُرَى عَلى ظاهِرِها وإِسْنَادُ الأَنْبَاءِ إِلَيْها في الآيةِ السابقةِ هو مَجازٌ، والضميرُ في "مِنْهَا" يعودُ لَهَا، والضَّميرُ في "ظلمناهم" يعودُ ل "أَهْلِ" المَفْهومِ مِنْها، وقيلَ: "القرى" مَجازٌ عَنْ أَهْلِها، والضَّميرانِ راجِعانِ إِلَيْها بِذلِكَ الاعْتِبارِ، أَوْ يُقَدَّرُ المُضافُ. والضَّميرانِ لَهُ أَيْضًا، وهذه الجُمْلَةُ "ظَلَمْناهُم" مُسْتَأْنَفَةٌ ليس لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ. و "وَلَكِنْ" الواوُ: للعطفِ، و "لكنْ" للاسْتِدْراكِ، و "ظَلَمُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، و "أَنْفُسَهُمْ" مَفْعولٌ به منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وضميرُ الغائبينَ "هم" متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافة، وهذه الجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "ظَلَمْنَاهُمْ" على كونِها مستأنَفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ، و "ما" نافيةٌ لا عملَ لها، و "أَغْنَتْ" فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، والتاءُ: لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، و "عَنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "أَغنى"، وضميرُ الغائبينَ "هم" متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بهِ. و "آلِهَتُهُمُ" فاعلُ "أَغْنَى" مَرْفوعٌ وهو مضافٌ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "ظَلَمُوا" فلا محلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} الَّتِي: اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ صِفَةٍ لِـ "آلِهَتُهُمُ"، و "يَدْعُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجملةُ صلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "التي" فلا محلَّ لها من الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: يَدْعونَها. و ""مِنْ دُونِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مضافٌ متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ ضميرِ الفاعلِ في "يَدْعُونَ" أَيْ: حالَةَ كَوْنِهم مُتَجاوِزينَ اللهَ إلى غَيْرِهِ، ولفظُ الجلالةِ "الله" في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليهِ. و "مِنْ شَيْءٍ" من: حرفُ جرٍّ زائدَةٍ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجَرِّ مَنْصوبٌ محلًّا عَلَى المَفْعولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِـ "أَغْنَتْ".
قولُهُ: {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} لَمَّا: حِينِيَّةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَغْنَى"، و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "أَمْرُ" فاعلُهُ مرفوعٌ به وهو مضافٌ، و "رَبِّكَ" مُضافٌ إلَيْهِ مجرورٌ وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافة "لَمَّا" الحِينِيَّةِ إليها.
قولُهُ: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} الواوُ: للعطفِ، و "مَا" نافيةٌ لا عملَ لها، و "زَادُوهُمْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأول، والجملةُ في محلِّ الجَرِّ عَطْفًا على جملةِ: "أَغْنَى"، و "غَيْرَ" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ منصوبٌ وهو مضافٌ، و "تَتْبِيبٍ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ.