وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
قولُهُ ـ تَباركَ وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} يُخْبِرُنا ربُّنا ـ تباركتْ أسماؤهُ، أَنَّه أَرْسَلَ نبيَّهُ مُوسَى بْنَ عِمرانَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، إِلَى فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَكِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، مُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ البَيِّنَاتِ والحُججِ الدامغاتِ، الدَّالاَّتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ، وَقد عُقِّبَتْ قِصَّةُ مَدْيَنَ بِذِكْرِ بَعْثَةِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِقُرْبِ مَا بَيْنَ زَمَنَيْهِمَا، وَلِشِدَّةِ الصِّلَة بَين النبيَّيْنِ، فَإِنَّ مُوسَى بُعِثَ فِي حَيَاةِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ ابْنَةَ شُعَيْبٍ، وستأْتي قصَّةُ هذا الزواجِ الميمونِ مفصَّلةً في سورة القصصِ إنْ شاء اللهُ تعالى.
والآياتُ التي أيَّدَ اللهُ تعالى رسولَهُ موسى بها تِسْعٌ، وهي: العَصا، وبياضُ اليَدِ، والطُوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفَادِعُ، والدَّمُ، ونَقْصُ الأَمْوالِ، ونقصُ الأَنْفُسِ. ومِنْهم مَنْ جَعَلَهَا آيةً واحدةً وهي إِظْلالُ الجَبَلِ ولَيْسَ الأمرُ كَذلِكَ فإنَّ نَتْقَ الجبلِ كانَ لِقبولِ أَحْكامِ التَوْراةِ حِينَ أَبَاهُ بَنُو إِسْرائيلَ.
وقيلَ: المُرادُ بالآياتِ التَوْراةُ، مَعَ ما فِيها مِنَ الأَحْكامِ، وأَيَّدْناهُ بِمُعْجزاتٍ باهراتٍ قاهراتٍ هي اليَدُ والعصا، أيْ: ولقد أَرْسَلْنَا موسى بالتوراة دلالةً عَلى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وصِدْقِهِ في تبليغِ رِسالَةِ ربِّهِ، وليس هذا القولُ بِسَديدٍ؛ لأَنَّهُ قال في الآيةِ التي تليها: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، وإنَّما أَنْزِلَتِ التوراةُ بَعْدَ هَلاكِ فِرْعَوْنِ ومَلَئِهِ في اليومِّ، كما تقدَّمَ مِنْ قصَّتِهِ.
قولُهُ: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} السلطانُ: البُرْهانُ والبَيَانُ في الحُجَّةِ؛ وهو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّليطِ وهو مصباحٌ يُسْتَضاءُ بِهِ، وقيل: هو مِنَ أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلى كُلِّ مُناوئً ومُخاصِمٍ، أَيْ: أَنَّ في الآياتِ المُعْجِزاتِ التي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بُرهانٌ واضحٌ، وَحُجَجٌ دَامِغَاتٌ عَلَى صِدْقِهِ فيما يُبلِّغُ َمِنْ رسالَةِ رَبِّهِ. وهذا العطفُ هو مِنْ قَبيلِ عَطْفِ الصِّفَةِ على المَوْصُوفِ، أَوْ أَنَّ المُرادَ بالسُّلْطانِ المُبينِ هو الهيمنةُ والغَلَبَةُ والاستيلاءِ، كما هو في قولِهِ تعالى في الآية: 35، مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}، أَيْ هَيْمَنَةً وغَلَبَةً، وقد سُمِّيَتِ الحُجَّةُ سُلْطانًا؛ لأَنَّ صاحِبها يَقْهَرُ مَنْ لا حُجَّةَ لَهُ، كالسُلْطانِ يَقْهَرُ به غَيْرَهُ ممنْ لا سُلْطانَ له.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "قد" للتَحْقيقِ. وتَأْكيدُ الْخَبَرِ هنا بِ "قد" مِثْلَ تَأْكِيدِ خَبَرِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ} الآية: 25. مِنْ هذه السورةِ الكريمة. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، وهي ضميرُ المعظِّمِ نفسَهُ متَّصلةٌ به مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ، و "مُوسَى" مَفْعولُهُ منصوبٌّ به، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورها على الألِفِ، والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأنَفَةٌ. و "بِآيَاتِنَا" الباءُ حرفُ جرٍّ لِلْمُصَاحَبَةِ فَإِنَّ ظُهُورَ الْآيَاتِ كَانَ مُصَاحِبًا لِزَمَنِ الْإِرْسَالِ، و "آياتِ" مَجْرورٌ بها مُضافٌ، في محَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "مُوسَى" ـ عليه السَّلامُ، أَيْ: حالَةَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِآيَاتِنَا، و "نا" ضَميرُ المعَظِّمِ نفسَهُ، متَّصلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إليهِ.
قولُهُ: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وَسُلْطَانٍ: الواوُ حرفُ عطفٍ، و "سُلْطَانٍ" اسمٌ مَعْطُوفٌ عَلى "آياتِ" مجْرورٌ مثلها وعلامةُ جرِّهِ الكسرُ الواضحُ على آخرِهِ، و "مُبِينٍ" صِفَةُ ل "سلطانٍ" مَجْرورَةٌ مِثْلهُ، وعلامةُ جرِّه أَيْضًا الكسرُ الظاهرُ على آخِرِهِ.