قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(92)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} سبحانَ اللهِ العَظيمِ الحَليمِ، ما أَعْظَمَهً في حِلْمِهِ، على الجَهَلةِ الكَفَرةِ منْ خلقِهِ، يَخْشَوْنَ مَخْلُوقًا ضَعيفًا مِثْلَهُمْ لا يَمْلكُ لهم ولا لنفسِهِ ضَرًّا ولا نفعًا، ولا يَخْشَوْنَ اللهَ القويَّ القادِرَ، وما ذَاكَ إلَّا غَفلةً مِنهم وجهلًا، فمَثَلُهمْ كمثلِ الذي يَخْافُ العَصَى بدلَ خَشْيَةِ حامِلِها الذي يَضْرِبُ بِها، لِذَلِكَ قالوا لِنَبِيِّهم ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، ولولا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، فرَدَّ عَلَيْهم: أَرَهْطِي وجَمَاعَتِي و قَوْمِي أَعزُّ عليكم، وأَخْوَفُ عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تعالى؟ فهم أَوْلى بإِكْرَامِكم وَاحْتِرَامِكم.
قولُه: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} وَقَدْ نَبَذْتُمْ جَانِبَ اللهِ وَحَقَّهُ، وَجَعَلْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ لاَ تُطِيعُونَ رَبَّكُمْ، وَلاَ تُعَظَّمُونَهُ، ولا تحترموا رسولَهُ إليكم.
فقد أَخرجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "واتَّخَذْتُمُوهُ وراءَكُمْ ظِهْرِيًّا" قَالَ: نَبَذْتُمْ أَمْرَهُ. وَأَخرْجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "واتَّخَذْتُموهُ وراءَكمْ ظِهْرِيًّا" قَالَ: قَضَاءٌ قُضِيَ. وَأَخرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ تعالى: "واتَّخَذْتُموهُ وراءَكمْ ظِهْرِيًّا" يَقُول: لَا تَخافونَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنْ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنه: "واتَّخَذْتُموهُ وراءَكمْ ظِهْرِيًّا" قَالَ: جَعَلْتمُوهُ خَلْفَ ظُهورِكم، فَلَمْ تُطيعوهُ وَلَمْ تَخافوهُ. وَأَخرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رضي اللهُ عنه: "واتَّخَذْتُموهُ وراءَكمْ ظِهْرِيًّا" قَالَ: تَهاونْتمْ بِهِ. وَأَخْرجَ أَبُو الشَّيْخِ أيضًا، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "واتَّخَذْتُموهُ وراءَكمْ ظِهْرِيًّا" قَالَ: الظِهْرِيُّ الْفَضْلُ، مِثْلُ الْجَمَّالِ، يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى إبِلٍ ظِهْرِيٍّ فَضْلٍ لَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَيْهَا، فَيَقُولُ: إِنَّمَا ربُّكُم عنْدكُمْ هَكَذَا، إِنِ احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَحْتَاجُوا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
والظِهْرِيُّ: هوَ المَنْسوبُ إلى الظَّهِيْرِ، وهوَ مِنْ تغييراتِ النِسَبِ كمَا قالوا في أَمْسِ: إمْسِيّ (بِكَسْرِ الهمزةِ)، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ (بِضَمِّ) الدالِ.
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَرَبِّي يَعْلَمُ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ وَهُوَ مُحيطٌ بِهَا، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهَا أَوْفَى جَزَاءٍ إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شَرًا فَشَرٌّ. فقد أَخْرَجَ اسْحَقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنهُم، أَنَّ شُعيبًا ـ عليه السَّلامُ، قَالَ لِقَوْمِهِ: يَا قومِ اذْكُروا قومَ نوحٍ وَعَادٍ وَثَمُود "وَمَا قومُ لُوطٍ مِنْكُم بِبَعِيدٍ"، وَكَانَ قومُ لوطٍ أَقْرَبَهم إِلَى شُعَيْبٍ، وَكَانُوا أَقْرَبَهم عَهْدًا بِالْهَلَاكِ، و {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِن رَبِّي رَحِيمٌ} لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنَ الذَّنْبِ، {وَدودٌ} يَعْنِي يُحِبهُ ثمَّ يَقْذِفُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ عِبادِهِ. فَردُّوا عَلَيْهِ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثيرًا مِمَّا تَقولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينَا ضَعِيفًا} كَانَ أَعْمَى "وَلَوْلَا رهطُكَ" يَعْنِي عَشيرَتُكَ الَّتِي أَنْتَ بَينَهم "لَرَجَمْناكَ" يَعْنِي لَقَتَلْناكَ "وَمَا أَنْت علينا بعزيزٍ، قَالَ يَا قومِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللهِ" قَالُوا: بَلِ اللهُ. قَالَ فاتَّخَذَتُمُ اللهَ وراءَكم "ظهريًّا" يَعْنِي تركْتُم أَمْرَهُ، وكَذَّبتمْ نَبِيَّهُ غَيْرَ أَنَّ عِلْمَ رَبِّي أَحَاطَ بِكم "إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمَ ذُنوبِهم تَطْفيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وبخْسُ النَّاسَ أَشْياءَهم مَعَ ذنُوبٍ كَثِيرَةٍ كَانُوا يَأْتونَها فَبَدَا شُعَيْبٌ فَدَعَاهُمْ إِلَى عبَادَةِ اللهِ وكَفِّ الظُّلْمِ وَترْكِ مَا سِوَى ذَلِك.
قولُهُ تعَالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} قال: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخرهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على النبيِّ شُعيبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهذه الجملةُ مستأْنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "يا" أَداةُ نِداءٍ، و "قومِ" مُنادى مُضافٌ، منصوبٌ بالنداءِ وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على ما قبلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحذوفَةِ للتَخْفيفِ اكتفاءً بالكسرةِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياءِ المتكلمِ المحذوفةِ، وياءُ المتكلِّم المحذوفةُ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالَ". و "أرهطي" الهمزةُ للاسْتفهامِ الإنكاريِّ المُتضمِّنِ للتَوبيخِ، و "رهطي" مُبْتَدَأٌ مَرْفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ، الضمَّةُ المقدَّرةُ على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ لانْشِغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ لها وهو مضافٌ، والياءُ: ضميرُ المُتَكلِّمِ المُتَّصِلُ بِهِ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه، و "أَعَزُّ" خبرُ المبتدَأِ مرفوعٌ، و "عليكم" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بالخَبرِ "أعَزُّ"، و "مِنَ اللهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بالخبرِ، ولَفظُ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجملةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ النَّصبِ بٍ "قالَ" على كونِها جوابَ النِّداءِ.
قولُه: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} الوَاوُ: للحالِ، و "اتَّخَذْتُمُوهُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، هو تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ، والواوُ: زائدَةٌ، لإشباعِ حَرَكَةِ الميمِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأوَّلِ، و "وَرَاءَكُمْ" مَنْصوبٌ على الظَرْفيَّةِ متعلَّقٌ بحالٍ مِنْ "ظِهْرِيًّا" وهو مُضافٌ، وضميرُ المُخاطَبينَ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "وراءَ" ظَرْفًا للاتِّخاذِ، وأَنْ يكونَ حالًا مِنْ "ظهريًّا"، والضَميرُ في "اتخذتموه" يَعودُ على اللهِ تعالى؛ لأنَّهم يَجْهَلونَ صِفاتِهِ، فجَعَلُوهُ، أَيْ: جَعَلوا أَوامِرَهُ ظِهْرِيًّا، أَيْ: مَنْبُوذَةً ورَاءَ ظُهُورِهم، وقيلَ: الضَميرُ يَعودُ على العِصيانِ، أَيْ: واتَّخَذْتُمُ العِصْيانَ عَوْنًا على عَداوتي، فيكون الظِّهْرِيُّ على هذا بِمَعْنَى المُعِين المُقَوِّيّ. و "ظِهْرِيًّا" مَفْعولٌ به ثانٍ ل "اتَّخَذْتم"، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ المفعولُ الثاني هوَ الظَّرْفُ و "ظِهْرِيًّا" حالٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الفعلُ مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ، فيَكونَ "ظِهْرِيًّا" حالاً فقط. وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، عطْفًا على الجُمْلَةِ الاسْمِيَّة عَلى كونِها مَقولَ القولِ ل "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ، و "ربي" اسْمُهُ منصوبٌ به وعلامةُ نَصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على ما قبلَ ياء المتكلِّمِ منعَ من ظهورها انشغالُ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ للياءِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليهِ. و "بِمَا" الباءُ: حرفُ جرٍّ بـِ "مُحِيطٌ"، و "ما" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، أَوْ هِيَ نَكِرَةٌ موصوفةٌ، و "تَعْمَلونَ" فعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وجُمْلَةُ "تَعْمَلُونَ" صِلَةُ "ما" فلا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، إنْ أعرِبتْ "ما" اسمًا موصولًا، أَوْ صِفَةٌ لَها في محلِّ الجرِّ إنْ أُعربتْ نَكِرةً موصوفةً. و "مُحِيطٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ بها، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ".