وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
(58)
قولُهُ ـ جلَّ ثناؤه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: بِهَلاكِ عَادٍ، فأُطْلِقَ الْأَمْرِ عَلَى أَثَرِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينٍ، أوْ ولمَّا جاءَ وقتُ عَذابِنا لعادٍ وموعدُه، أَيْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيءُ أَثَرِ أَمْرِنَا، وجَرَى حُكْمُنا، وَهُوَ الْعَذَابُ، وقالَ ابْنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا" أي عذابنا. وهوَ الرِّيحُ الْعَظِيمُ، فعَصَفَتْ عَلَيْهِمُ الريحُ السَّمومُ، عَذَّبَهُمُ الله بِهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، تَدْخُلُ فِي مَنَاخِرِهِمْ وَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ فَتُقَطِّعُ أَمْعَاءَهمْ وَتَصْرَعُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَلَى وُجُوهِهِمْ حَتَّى صَارُوا كَأَعْجَازِ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ. كما قال تعالى في سورة الحاقَّة: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} فَهَلَكوا. نَعُوذُ باللهِ أنْ يَنْزِلَ بِنَا عَذابُهُ أَوْ يَحيقَ بِنَا سُخَطُهُ. وفي إضافةِ الأمرِ إلى ضميرِ الجلالةِ ما لا يخفى من التهويل والتعظيمِ له والتفخيم.
قولُهُ: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} وكانوا أربعةَ آلافٍ وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ {بِرَحْمَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ لهم {منا} وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهدايةِ إليه لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَنْجُو إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْعَذَابُ الَّذِي يَتَوَعَّدُ بِهِ النَّبِيَّ أُمَّتُهُ إِذَا حَضَرَ يُنَجِّي اللهُ مِنْهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، نَعَمْ، ولَا يَبْعُدُ أَنْ يَبْتَلِيَ اللهُ نَبِيًّا وَقَوْمَهُ فَيَعُمُّهُمْ بِبَلَاءٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لِلْكَافِرِينَ، وَتَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا تَوَعَّدَهُمُ النَّبِيُّ بِهِ. وقال الرازي: يَجُوزُ إِتْيَانُ الْبَلِيَّةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَلَى الْكَافِرِ مَعًا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ تِلْكَ الْبَلِيَّةُ رَحْمَةً عَلَى الْمُؤْمِنِ وَعَذَابًا عَلَى الْكَافِرِ، فَأَمَّا الْعَذَابُ النَّازِلُ بِمَنْ يُكَذِّبُ الْأَنْبِيَاءَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي حِكْمَةِ الله تَعَالَى أَنْ يُنَجِّيَ الْمُؤْمِنَ مِنْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُرِفَ كَوْنُهُ عَذَابًا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الله تَعَالَى هاهنا: "ونَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ".
قولُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أَيْ: نَجَّى المؤمنينَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي حَصَلَ لَكفَّارِ عادٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَذَابِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ كَانَ عَذَابًا غَلِيظًا، فإنَّ ما ذاقوا مِنْ العَذابِ بِريحِ السَّمومِ ليس شيئًا في جانِبِ عَذابِ اللهِ لهم في الآخِرَةِ. وقدْ مَنَّ اللهُ تعالى على المؤمنين فنجّاهم من العذابين، عذاب الدنيا وعذابٍ في الآخرة، وقيلَ: هوَ تَكريرٌ لإنْجائهم مِنَ العَذابِ بِريحِ السَّمُومِ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "لما" بِمَعْنى "حينَ" مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَرْطِ مُتَعَلِّقٌ بِ "نَجَّيْنا"، و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ. و "أَمْرُنَا" فاعلٌ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، و "نا" العَظَمةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجملةُ فعْلُ شَرْطٍ لـِ "لمّا".
قولُهُ: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} نَجَّيْنَا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "هُودًا" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى "هُودًا"، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه جوابُ "لمَّا، الشرطيَّةِ، وجُمْلَةُ "لمَّا" الشرطيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، و "آمَنُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، وجملةُ "آمنوا" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الذين"، و "مَعَهُ" نصبٌ على الظرْفيَّةِ المكانيَّةِ، مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ الغائبِ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْهِ والظرفُ متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ فاعِلِ "آمَنُوا"، و "بِرَحْمَةٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِـ "نَجَّيْنَا"، والباءُ سَبَبِيَّةٌ، و "مِنَّا" جارٌ ومجرورٌ متعلِّقٌ بصِفَةٍ لـِ "رَحْمَةٍ".
قولُهُ: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} الواو: للاستئنافِ. و "نجّينا" مثلُ الأُولى، و "هم" ضمير الغائبينَ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِهِ، و "مِنْ عَذابٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ متعلِّقٌ بِ "نجَّيْناهم"، و "غليظٍ" مجرورٌ صفةً ل "عذابٍ". وهذه الجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.