يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أمرٌ من اللهِ ـ سبحانَه وتعالى، لنبيِّهِ هود ـ عليه السلامُ، أنْ يُخبِرَ قومَهُ بأَنَّه لا يُريدُ مْنْهم أَجْرًا عَلَى نُصْحِهِ لَهُمْ وَإِبَلاَغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمِ، وليس له أي مطمعٍ فيما بين يديهم منْ عرضِ الدنيا، لِيَطْمَئِنوا إليه ولا يخافونه على أموالهم، وكأَنَّه ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَقولُ لهم: ما الذي يَشُقُّ عَلَيْكم فيما أبلِّغُكمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ مَولاكم، وما أَدعوكم إليه؟ إنني لا أَسأَلَكمْ أَجْرًا ولا منفعةً على هذا البلاغ مِنَ اللهِ تعالى، وأَنَا في غِنًى عَنْ ذلك؛ لأنَّ أَجْري عَلى مَنْ أَرْسَلَني وليس عليكم.
قولُهُ: {ِإنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} أَيْ: إِنَّ أَجْري عَلى مَنْ خَلَقني مُعَدًّا لِهذِهِ الرِسالةِ؛ لأنَّ الفِطْرةَ تَعني التَكوينَ الأَساسِيَّ للإنسانِ. والحقُّ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، قدْ أَعَدَّ هودًا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِيَكونَ رَسُولًا، وَإِنَّمَا يَبْغِي الثَّوَابَ مِنَ اللهِ، الذِي خَلَقَهُ عَلَى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، مُبَرَّأٌ مِنَ الطمعِ فيما بينَ يدي الناسِ. ولذلك ترك الأَجْرَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فإنَّ أَجْرَ الرسالةِ التي يحملُ لا يقدرُ عليه سوى اللهِ تعالى.
قولُهُ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ مَا يُقَالُ لَكُمْ فُتُمَيِّزُونَ بَيْنَ ما يَضُرُّ وَمَا يَنْفَعُ، وَأَنَّ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يُصْلِحُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا.
قولُهُ تعالى: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} يَا: أداةُ نداءٍ للمتوسِّطِ بُعدُهُ، و "قَوْمِ" مُنادى مُضافٌ، مَنْصوبٌ، وعلامةُ النَّصبِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلى ما قَبْلِ الياءِ المَحْذوفَةِ للتَخْفيفِ، والياءُ المَحْذوفَةُ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قال"، و "لا" نافيَةٌ، و "أَسْأَلُكُمْ" أَسْأَلُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ وعلامةُ رفعه ضمَّةٌ ظاهرةٌ على آخِرِهِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنا" يعودُ على هودٍ ـ عليه السلامُ، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولِهِ الأوَّل، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّر، و "عَلَيْهِ" جارٌ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، "أَجْرًا" مَفعولُهُ الثاني منصوبٌ به، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في محَلِّ النَّصْبِ بالقولِ، لِ "قال" على كَوْنِهَا جَوابَ النِداءِ.
قولُهُ: {ِإنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} إِنْ: نافيَةٌ، و "أَجْرِيَ" مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ وعلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرَةٌ عَلى ما قبْلِ ياءِ المتَكلِّم لانشغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ للياءِ، وهو مضافٌ، والياءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جَرِّ مضافٍ إليه، و "إِلَّا"، أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "عَلَى الذي" جَارٌّ، ومجرورٌ في مَحَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، وهذه الجُمْلَةُ الاسِمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قال"، و "فَطَرَنِي" فَطَرَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفتحِ الظاهرِ على آخرِهِ، والفاعلُ: ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعود عَلى الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي"، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والنونُ للوقايَةِ، وهذه الجمْلَةُ صِلَةُ المَوصولِ فلا محلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَفَلَا: الهمزةُ: للاسْتِفْهامِ التَوْبِيخِيِّ، داخِلَةٌ على مَحْذوفٍ تَقديرُهُ: أَتْغْفُلونَ عَنْ هذِهِ القِصَّةِ؟ والفاءُ: عاطِفَةٌ عَلى ذَلِكَ المَحْذوفِ، و "لا" نافيِةٌ، و "تَعْقِلُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قال".
قرأ العامَّةُ: {يا قومِ} بكسرِ الميمِ، وقرأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يا قومُ" بضمها، كقراءَةِ حَفْصٍ في سورة الأنبياءِ: {قالَ رَبُّ احْكُم} الآية: 112. بالضم، وهي لُغَةٌ في المُنادى المُضافِ حَكاها سِيبَوَيْهِ وغَيرُه.
قرأَ نافع والبزّيُّ: {فطَرَنيَ}: بِفَتْحِ الياءِ، وقرأَ أبو عَمْرٍو وقُنْبُل بإسْكانِها.