وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ
(45)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} نادى نوحٌ ربَّه: أي: دَعاهُ، فالنِّدَاءُ هَنَا نِدَاءُ دُعَاءٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَدَعَا نُوحٌ رَبَّهُ، لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَصْدُرُ بِالنِّدَاءِ غَالِبًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَشْرِيفٌ لِنُوحٍ، وَإِيمَاءٌ إِلَى رَأْفَةِ اللهِ بِهِ، بما أَنَّهُ رَبُّهُ، وَأَنَّ نَهْيَهُ الْوَارِدَ بَعْدَهُ نَهْيُ عِتَابِ ربٍّ لمربوبٍ ومُحِبٍّ لِمَحْبوبٍ.
والظاهِرُ أَنَّ هذا النِداءَ كانَ قبلَ سَيْرِها لأنَّهُ سُؤالٌ في نَجاةِ ابْنِهِ ولا مَعنى للسُؤالِ إلَّا عِنْدَ إِمْكانِ النَجاةِ، والمُرادُ أَنَّهُ أَرادَ دُعاءَهُ، بِدَليلِ الفاءِ في قولِهِ "فقال: رَبِّ إنَّ ابْني مِنْ أَهْلِي" وغيرُ مُسْتَساغٍ عَطْفُ الشَيْءِ عَلى نَفْسِهِ، فلا بُدَّ مِنَ التَقديرِ المَذْكورِ. وقيلَ هو عطفُ تفسيرٍ أوْ تَفصيلٍ، إذِ القولُ المَذكورُ هوَ عيْنُ النِّداءِ فهوَ مُرْتَبِطٌ في المَعْنى بقولِهِ في الآيةِ التي قبلها: {ونَادى نوحٌ ابْنَهُ}، أيْ هُوَ مِنَ الأَهْلِ الذينَ وَعَدْتَني أنْ تُنَجِّيهم بقولِكَ: {وأهلَكَ}. وقد طَلَبَ نوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إنْجازَ ما وَعَدَهُ اللهُ به في قولِهِ: (وأهلكَ) وهوَ المُسْتَثنى مِنْه وتَرَكَ ما يُفيدُهُ الاسْتِثناءِ في قولِهِ: {إلَّا مَنْ سَبَقَ عليهِ القولُ} لأنَّه لم يَعلَمْ إذْ ذاكَ أَنَّ ابْنَهُ هذا مِمَّنْ سَبَقَ عَليْهِ القولُ، فقد كانَ يَظُنُّهُ مِنَ المُؤمنين، ثمَّ إنَّ هذَا السُؤالَ كانَ سُؤَالَ اسْتِعْلامٍ مِنْ نُوحٍ ـ عَلَيهِ السَّلاَمُ، عَنْ حَالِ وَلَدِهِ الذِي غَرِقَ.
وقيل: إنَّ مَوْقِعَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ نِدَاءَ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ بَعْدَ اسْتِوَاءِ السَّفِينَةِ عَلَى الْجُودِيِّ، وكانَ بدَاعِي الشَّفَقَةِ، أَرَادَ بِهِ نَفْعَ ابْنِهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ نَجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللهَ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ إِلَّا لِلَّذِينَ يَرْكَبُونَ السَّفِينَةَ، وَلِأَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا دَعَا ابْنَهُ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ وأَبَى وَجَرَتِ السَّفِينَةُ، عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى نَجَاتِهِ فَكَيْفَ يَسْأَلُهَا مِنَ اللهِ؟! فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ سَأَلَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بعد ذلك: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كَمَا سَيَأْتِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا وَقَعَ قَبْلَ غَرَقِ النَّاسِ، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يُنَجِّيَ ابْنَهُ مِنَ الْغَرَقِ. كما جُازَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غَرَقِ مَنْ غَرِقُوا، أَيْ نَادَى رَبَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لِابْنِهِ وَأَنْ لَا يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ.
قولُهُ: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هُوَ مِنْ أَهْلِي، وَقَدْ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي، قال ذلك بداعي عاطفةِ الأبوَّةِ، سواءً كانَ الدُعاءُ بالنجاةِ أو بالمغفرةِ كما تقدَّمَ، وعاطفةُ الأُبُوَّةِ عاطفةٌ محمودةٌ، وهي مِنْ مِنَحِ الحقِّ ـ جلَّ وعلا، لخلقِهِ ولولاها ما عُمِّرَ الكونُ، فإنَّه سبحانَهُ، يَشْحَنُ بها قلبيِ الأبوينِ على قَدْر حاجَة أبنائهم لهم، ولو لم تكن تلك العاطفةُ موجودةً، لَمَا تحمُّلَ أَيُّ من الأبوين مَتَاعِبَ تربيةِ أَبنائه.
ولا بُنُوَّةَ للأنْبِياءِ سوى بُنُوَّةِ الاتِّباعِ، نَجِدُ ذلك جليًّا في خَليلِ الرَّحمنِ إبراهيمَ ـ عليْه السلامُ، حينَ قالَ فيهِ مولاهُ سُبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} سورةُ البقرة، الآية: 124. وهذا يعني أنَّ النُبُوَّةَ ليسَ لها بُنُوَّةٌ وإنَّما لها أَتباع. ويتَّضحُ ذلكَ أيضًا في قولِه ـ عليه السلامُ بعد أنِ استقرَّ في ذهنِهِ قولُ الحقَّ تبارك وتعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللهِ واليومِ الآخِرِ} سورة البقرة الآية: 126. فطلَبَ الرِزْقَ للمُؤمنينَ، لكنَّ الحقَّ سبحانه يبيِّن له أنه نقل المسألة إلى غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية هي للمؤمن فقط؛ لذلك قال الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ} أي: أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية.
قولُهُ: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} إنَّ وعدَكَ الحَقُّ، أَيْ: الصِدْقُ الذي لا خُلْفَ فيهِ، فوَعْدُكَ حَقٌّ لاَ يُخْلَفُ، فَكَيْفَ غَرَقُ ابْنِي، فإنَّ نوحًا ـ عليه السلامُ، طَلَبَ مِنِ ابْنِهِ رُكُوبَ السَّفِينَةِ فأَبَى، لأَنَّ مَنْ سَبَقَ عِلْمُ اللهِ فيه مِنَ النَّاسِ بِأَنَّهُ لَا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ فَهُوَ ظَالِمٌ، أَيْ كَافِرٌ، وَأَنَّهُ مُغْرَقٌ، فَكَانَ عَدَمُ رُكُوبِهِ السَّفِينَةَ وَغَرَقُهُ أَمَارَةً أَنَّهُ كَافِرٌ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَجْهَلُ أَنَّ ابْنَهُ كَافِرٌ، وَلِذَلِكَ فَسُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَكِنَّهُ يَطْمَعُ برحمةِ ربِّهِ لَعَلَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِ بِهِ، فَسُؤَالُهُ لَهُ الْمَغْفِرَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَخْذٌ بِأَقْصَى دَوَاعِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِابْنِهِ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ الْمُفِيدُ أَنَّهُ لَا رَادَّ لِمَا حَكَمَ بِهِ وَقَضَاهُ، وَأَنَّهُ لَا دَالَّةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ مَقَامُ تَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ مَا لَيْسَ بِمُحَالٍ. وَما كَانَ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَيْرَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ قد تَقَرَّرَ فِي شَرْعِهِ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لِلْكَافِرِينَ بعدُ، فَكَانَ حَالُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَحالِ نَبِيِّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لِعمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)). قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى في سورة التوبة: {مَا كَانَ للنبيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ: 113.
قولُهُ: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي: أَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ، وَحُكْمُكَ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ، وَلا يَعْرِضُ لَهُ خَطَأُ وَلا ظُّلْمُ؟ وهوَ إقرارٌ من نبيِّ اللهِ نوحٍ ـ عليهِ السلامُ، بِأَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ، لا يُخْطِئُ؛ لأنَّ الابْنَ قدْ غَرِقَ، بَلْ لا بُدَّ أَنْ ذَلكَ الغَرَقَ كانَ لِحْكْمَةٍ يريدُها اللهُ جلَّ وعلا، و "أَحْكَمُ الحاكِمينَ" أيْ: أَتْقَنُ المُتْقِنينَ، لِمَا يَكونُ بِهِ الحُكْمُ ولذلك فليسَ لحكمِكَ نَقْضٌ. وقيلَ أَرادَ أَعْلَمَ الحاكمينَ وأَعْدَلَهم، وقيلَ المرادُ بالحاكِمِ هنا: ذو الحِكمَةِ.
قولُهُ تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} وَنَادَى: الواوُ: للاستئنافِ، و "نادى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّر على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألفِ، و "نوحٌ" فاعلٌ مرفوعٌ، و "ربَّهُ" مفعولٌ به منصوبٌ وهو مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلٍّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفةٌ.
قولُهُ: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} الفاءُ: للعطفِ، و "قالَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على آخرِهِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هوَ"، يَعودُ عَلى نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ على جُمْلَةِ "نادى"، وقد عَطَفَ "قَالَ" على "نادى" بالفاءِ لأنَّهُ أُريدَ بالنِداءِ إرادةُ النِداءِ، ولوْ أُريدَ النِداءُ نَفْسُهُ لَجاءَ العطفُ بِدونها كما جاءَ في سورةِ مريمَ قولُهُ تعالى: {إِذْ نَادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قالَ: رَبَّ إنَّي وهنَ العظمُ منِّي ..} الآيتان: 2 و 3. و "رَبِّ" مُنادى مُضافٌ مَنْصوبٌ، حُذِفَ مِنْهُ أَداةُ النِداءِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقَدَّرَةٌ على ما قَبْلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةِ للتَخْفيفِ، وياءُ المتكلِّمِ المحذوفةُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ. و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ، و "ابني" اسْمُهُ منصوبٌ بهِ، وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على ما قبلِ يا المتكلِّمِ لاشتغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ للياءِ، وهو مضافٌ، والياءُ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مِنْ أَهْلِي" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خبرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قال". عَلى كَوْنِها جوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} وَإِنَّ: الواوُ: حرفُ عطفٍ، و "إنَّ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعل للتأكيد، وَ "وَعْدَكَ" اسْمُهُ منصوبٌ به، وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، و "الحقُّ" خَبرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعهِ ظاهرةٌ على آخره، وهذه الجُمْلَةُ مَعطوفةٌ عَلَى جملةِ "إنَّ" الأُولى.
قولُهُ: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} وَأَنْتَ: الواوُ: حاليَّةٌ، و "أنتَ" ضميرُ فصلٍ للمُخاطَبِ في محلِّ رفعٍ بالابتِداءِ، و "أَحْكَمُ" خبرُهُ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، و "الْحَاكِمِينَ" مضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّه جمعُ المذكَّرِ السالِمِ، والجملةُ الاسميَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحال مِنْ كافِ "وَعْدَكَ".