فيض العليم ... سورة هود الآية: 46
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
(46)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} رَدٌّ مِنَ اللهُ سُبْحَانَهُ على نبيِّهِ نُوحٍ ـ عليه السلامُ، حين سألَه نجاةَ ابنِهِ كنعان في الآيةِ التي قبلها: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" أي: الذِينَ وَعَدْتُكَ بِإِنْجَائِهِمْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ، لأَنِّي وَعَدْتُكَ بِنَجَاةِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِكَ. وَابْنُكَ هذا لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِذْ أَنَّهُ بِكُفْرِهِ قَدِ انْقَطَعَتِ المُوَالاَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، لأنَّ مَدارَ الأَهْلِيَّةِ هوَ القَرابَةُ الدينِيَّةُ وقدِ انْقَطَعَتْ قرابةُ النَّسَبِ بَينَكما بالكُفْرِ، فلا عَلاقَةَ بَيْنَ مُؤمنٍ وكافِرٍ، ولذلك لم يَتَوارَثا، وقدْ ذَكَروا أَنَّ قَرابَةَ الدِّينِ أَقْرَبُ مِنْ قَرابَةِ النَّسَبِ كَما أَشارَ إلى ذَلِكَ أَبو نواسٍ فقال:
كانتْ مَوَدَّةُ سَلْمانٍ لَهُ نَسَبًا ............. ولمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وابْنِهِ رَحِمُ
واختلفوا في هذا الابْنِ؛ فقالَ مُجاهدٌ والحَسَنُ البَصْريُّ ـ رضي اللهُ عنهما: كان وَلَدَ حِنْثٍ مِنْ غيرِ نُوحٍ ـ عليهِ السَّلامُ، ولم يَعْلَمْ بِذلكَ نوحٌ، ولذلك قالَ له: "مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" وقرَأَ الحَسَنُ قولَهُ تعالى في سورةِ التحريم: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} الآية: 10.
وقالَ أَبو جَعْفَرٍ الباقِرُ: كانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ، وكانَ يَعْلَمُهُ نُوحٌ، ولذلِكَ قالَ "مِنْ أَهْلي" ولَم يَقُلْ مِنِّي.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وعِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ العِجْلِيُّ، وسعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والضَحَّاكُ، والأَكْثَرون ـ رضي اللهُ عنهم أجمعين: إِنَّهُ كانَ ابْنَ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ صُلْبِهِ. وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما: ما بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وأَخرجَ عنهُ ابْن أبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ، قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَزْنِينَ. وَكَانَ يقْرأُهَا: "إِنَّه عَمَلٌ غيرُ صَالحٍ" يَقُول: مَسْأَلَتُكَ إيَّايَ يَا نوحُ عملٌ غيرُ صَالحٍ لَا أَرضاهُ لَك. وقولُهُ: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" أيْ: مِنْ أَهلِ الدِّينِ، لأنَّهُ كان مُخالفًا لهُ في الدِّينِ، وقولُه: "فخانتاهما" أي: في الدِّينِ والعَمَلِ الصالِحِ لا في الفِراشِ. أوْ "لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ" الذين أَمرتُكَ بِحَمْلِهم في الفُلْكِ لخُروجِهِ عنه بالاستثناءِ بقولِهِ: {إلَّا مَنْ سَبَقَ عليهِ القولُ} الآية: 40 السابقة.
قولُهُ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} إنَّ ابنَهُ الذي سألَ لَهُ النَّجاةَ قَدْ عَمِلَ أَعْمَالًا غَيْرَ صَالِحَةٍ، أَيْ كَفَرَ باللهِ تعالى، ففَصَلَهُ عَنْكَ كفرُهُ وأَبعَدَهُ، وحالَ بينَكَ وبَيْنَهُ، والأَصلُ: إنَّهُ ذو عَمَلٍ فاسِدٍ، فحُذِفَ "ذو" للمُبالَغَةِ بِجَعْلِهِ عَيْنَ عَمَلِهِ لِمُداومَتِه عَليْهِ، ولا يُقَدَّرُ المُضافُ لأنَّه حينئذٍ تَفُوتُ المُبالَغَة المَقصودَةُ مِنْهُ، ونَظيرُهُ قولُ الخَنساءِ في رِثائها صَخْرًا أَخاها مُشْبِّهَةً نَفْسَها في تَفَجُّعِها عَلَيْهِ وجزعها لفقدِهِ بِنِاقِةٍ مُرضعٍ فَقَدَتْ وَلِيدَها، فأتوا لها بجلدِ حُوارٍ وحشوهُ ثُمامًا لعطفَ عليهِ فهي ترعى حتى إذا ذكَرتْهُ رأيتَ لها إقبالًا وإدبارًا، تقولُ:
فَمَا عَجُولٌ لَدَى بَوٍّ تُطِيفُ بِهِ ............... لَهَا حَنِينَانِ إِعْلاَنٌ وإِسْرَارُ
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ................ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
يَوْماً بِأَوْجَعَ مِنِّي يَوْمَ فَارَقَنِي ............. صَخْرٌ ولِلْعَيْشِ إِحْلاَءٌ وإِمْرَارُ
أي: ذاتُ إِقبالٍ وإِدبارٍ؛ والبَوُّ: جِلْدُ الحُوارِ يُحْشى ثُمامًا فتُعْطَفُ عَلَيْهِ النَّاقَةُ إذا ماتَ وَلَدُها.
وقال: "غَيْرُ صالِحٍ" بدلًا مِنْ "فاسدٍ" إمَّا لأنَّ الفاسِدَ رُبَّما يُطْلَقُ عَلَى ما فَسَدَ ومِنْ شَأْنِهِ الصَّلاحُ، فلا يَكونُ نَصًّا فيما هوَ مِنْ قَبيلِ الفاسِدِ المَحْضِ، كالمَظالم، وإمَّا للتَلْويحِ بِأَنَّ نَجاةَ مَنْ نَجا إنَّما هيَ لِصَلاحِهِ.
وَمَعْنَى الْعَمَلِ غَيْرِ الصَّالِحِ الْكُفْرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْكُفْرِ "عَمَلٌ" لِأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي عَمَلِ صَاحِبِهِ كَامْتِنَاعِ ابْنِ نُوحٍ مِنَ الرُّكُوبِ الدَّالِّ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِوَعِيدِ الطُّوفَانِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ نَهْيُهُ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ نَهْيَ عِتَابٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ بِسَبَبِ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، سَقَطَ مَا مَهَّدَ بِهِ لِإِجَابَةِ سُؤَالِهِ، فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ لَا يَسْأَلَهُ وَأَنْ يَتَدَبَّرَ مَا أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ مِنَ اللهِ.
قولُهُ: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: فَلاَ تَدعُنِي في شَيءٍ لاَ عِلْمَ ثَابِتٌ لَكَ بِهِ، أي: لا تَطلُبُ شيئًا لا تَعْلَمُ يَقينًا أَنَّ حُصولَهُ صَوَابٌ ومُوافِقٌ للحِكْمَةِ، على تَقديرِ كَوْنِ "ما" عبارةً عَنِ المَسْؤولِ الذي هوَ مَفْعولٌ للسُؤالِ، أَوْ لا تطلُب طَلَبًا لا تَعْلَمُ أَنَّهُ صوابٌ، على تقديرِ كَوْنِهِ عِبارَةً عَنِ المَصْدَرِ الذي هوَ مَفعولٌ مُطْلَقٌ، فيكونُ النَهْيُ وارِدًا بِصريحِهِ في كلٍّ مَعلومِ مِنَ الفَسَادِ، ومُشْتَبِهِ الحَالِ، ويَجوزُ أَنْ يكونَ المَعْنى: لا تسألني ما لَيْسَ لَكَ عِلمٌ بأنَّه صوابٌ، أوْ غيرُ صَوابٍ فيكونُ النَهْيُ واردًا في مُشْتَبِهِ الحالِ ويُفهمُ مِنْهُ حَالُ معلومِ الفَسَادِ بالطَريقِ الأَوْلى، وعَلى التقديرين فهو عامٌ يندرجُ تَحتَهُ ما نَحْنُ فيه كَما ذكرنَاهُ، وَعَن مُجَاهِد ـ رَضِيَ الله عَنهُ فِي قَوْله: "فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم" قَالَ: بَيَّنَ اللهُ لِنُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ. أخرجهُ ابْنُ جريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ. واللهُ أعلم.
قولُهُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَإِنِّي أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ مَنْ يَجْهَلُونَ، فَيَسْأَلُونَ اللهَ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمَهُ، وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ، اسْتِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ. وقيلَ المعنى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهلاكِ الكُفَّارِ ثمَّ تَسْأَلُ نَجاةَ كافِرٍ. وَأَخرْجَ ابْنُ جريرٍ وَأَبُو الشَّيْخ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين" قَالَ: أَنْ تَبْلَغَ بِكَ الْجَهَالَة أَنِّي لَا أَفِي بِوَعْدٍ وعَدْتُكَ حَتَّى تَسْأَلَنِي. قَالَ: فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ، فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ أَنْ أَسأَلَكَ ما ليس لي به علمٌ}. الْآيَة. فقد أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَو أَنَّ رَجُلًا اتَّقَى مئَةَ شَيْءٍ، وَلمْ يَتَّقِ شَيْئًا وَاحِدًا، لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَلَو تَوَرَّعَ مِنْ مِئَةِ شَيْءٍ، وَلَمْ يَتَوَرَّعْ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ وَرِعًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خِلَّةٌ مِنَ الْجَهْلِ كَانَ مِنَ الْجَاهِلين، أَمَا سَمِعتَ إِلَى مَا قَالَ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّ ابْني مِنْ أَهْلِي} فقَالَ اللهُ تعالى: "إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين".
وَأخرجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْني مِنْ أَهلِي، فَأوحى اللهُ إِلَيْهِ: يَا نُوحُ إنَّ سُؤالَكَ إيَّايَ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهلِي عَمَلٌ غيرُ صَالِحٍ، فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكونَ مِنَ الْجَاهِلين. قَالَ: فبَلَغَني أَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَكَى عَلى قَولِ اللهِ له: "إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين" أَرْبَعِينَ عَامًا.
وَأخرَجَ أَحْمَدٌ فِي الزّهْدِ عَنْ وهيبِ بْنِ الْوَرْدِ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: لَمَّا عَاتَبَ اللهُ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَام، فِي ابْنِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: "إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين" بَكَى ثَلَاثمِئَةٍ حَتَّى صَارَت تَحْتَ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الْجَدْوَلِ مِنَ الْبُكاءِ.
قولُهُ تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} قَالَ: فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى "الله" تعالى، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "يَا" أداةُ نداءٍ لمتوسِّطِ البُعْدِ، و "نُوحُ" مُنَادًى مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالنداءِ لأنَّه مُفْرَدٌ عَلَمٌ، و "إِنَّهُ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرُ الغائبِ متَّصِلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ، و "لَيْسَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقَصٌ جامدٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازًا في محلِّ رفعٍ تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى الابْنِ، و "مِنْ أَهْلِكَ" جارٌّ ومَجْرورٌ مضافٌ في محلِّ نصبِ خَبَرِ "لَيْسَ" وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إن" في محَلِّ النَصْبِ بالقولِ ل "قال" على أنَّها جَوَابُ النِّداءِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} إِنَّهُ: تقدَّمَ إعْرابُهُ، و "عَمَلٌ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ، ولكنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، تَقْديرُهُ: ذو عَمَلٍ، و "غَيْرُ" صِفَةٌ لِـ "عَمَلٌ" مرفوعةٌ وهو مضافٌ، و "صَالِحٍ" مُضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ، وجملةُ "إنَّ" في مَحلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" على أنَّها مُعلِّلَةٌ لِمَا قَبْلَها.
قولُهُ: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ، و "لا" ناهيَة ٌجازِمَةٌ، و "تَسْأَلْنِ" فعلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "لا" الناهيةِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ: "أَنْتَ"، و النونُ نُونُ الوِقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزاءً عَنْها بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقايَةِ ضميرٌ متَّصلٌ به في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولِهِ الأوَّل، و "مَا" إمَّا موصولَةٌ بمعنى الذي، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ في مَحَلِّ نَصْبِ مفعولِهِ الثاني، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا على جُمْلَةِ "إنَّ" كونَها مُفَرَّعَةً عَلَيْها، و "لَيْسَ" تقدَّمَ إعرابها، و "لك" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ نِصْبِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِ "لَيْسَ"، و "بهِ" جارٌ وجرورٌ متعلِّقُ بِ "عِلْمٌ"، ويَكونُ مِثَلَ قول ِالعجَّاجِ الرَّاجزِ:
ربَّيْتُه حتى إذا تمَعْددا ................... كان جَزائي بالعَصا أن أُجْلَدا
وقيل يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالاستقرارِ الذي تَعَلَّق به "لك". والباءُ هنا بمَعنى "في"، أيْ: مَا لَيْسَ لكَ بِهِ عِلْمٌ. وفيه نظرٌ.
و "عِلْمٌ" اسْمُ "لَيْسَ" المؤَخَّرُ، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" صِلَةُ لِ "ما" إنْ أُعربتْ موصولةً أَوْ صِفَةٌ لِها إنْ أُعْرِبَتْ نكرةً موصوفةً.
قولُهُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} إِنِّي: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ، ونونُ الوقايةِ محذوفةٌ اجتزاءً عنها بالكسرةِ، و "أَعِظُكَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ وجوباً تقديرُهُ "أنا" يَعودُ على اللهِ تعالى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قَالَ" عَلَى كَوْنِها مُعَلَّلِةً لِمَا قبلَها، و "أَنْ" حرفٌ ناصِبٌ، و "تَكُونَ" فعلٌ مضارعٌ ناقصٌ منصوبٌ ب "أَنْ"، واسُمُ "تَكُونَ" ضَميرٌ مستترٌ وجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ على "نوح"، و "مِنَ الْجَاهِلِينَ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ نصبِ خبرِ "تَكُونَ"، وجملةُ "تَكُونَ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، تقديرُهُ: إني أَعِظُكَ مِنْ كَوْنِكَ مِنَ الجاهِلينَ. فإنَّ قولَهُ "أَن تَكُونَ" على حذْفِ حَرْفِ الجَرِّ، أَيْ: "مِنْ أَنْ تَكونَ"، أَوْ "لأَجْلِ أَنْ".
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {عَمَلٌ} بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ، مَصْدَرٌ أَخْبَرَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَبِرَفْعِ "غَيْرُ" عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ "عَمَلٌ". وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ "عَمِلَ" بِكَسْرِ الْمِيمِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَبِنَصْبِ "غَيْرَ" عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ "عَمِلَ". فالضميرُ في قراءةِ الكِسائيِّ يتعيَّنُ عَوْدُهُ على ابْنِ نُوحٍ، وفاعلُ "عَملَ" ضميرٌ يعودُ عليه أيضًا، و "غيرَ" مفعول به. ويجوز أن يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوف، تقديرُه: عَمل عملاً غيرَ صالحٍ كقوله في سورة المؤمنون: {واعملوا صَالِحًا} الآية: 51. وأَمَّا قراءةُ الباقين ففي الضمير أَوْجُهٌ، أَظْهَرُها: أَنَّهُ عائدٌ على ابْنِ نُوحٍ، ويَكونُ في الإِخبارِ عَنْهُ بالمَصْدَرِ المَذاهبُ الثلاثةُ في "رَجُلٌ عَدْلٌ". والثاني: أَنَّهُ يَعودُ عَلى النِداءِ المَفْهومِ مِنْ قولِهِ "ونادى"، أيْ: نِداؤكَ وسُؤالُكَ. وإلى هَذا ذَهَبَ أَبُو البَقاءِ ومَكِيٌّ والزَمَخْشَرِيُّ. وهذا فيهِ خَطَرٌ عَظيمٌ، كَيْفَ يُقالُ ذَلِكَ في حَقِّ نَبِيٍّ مِنْ الأَنْبِياءِ، فَضْلًا عَنْ أَوَّلِ رَسُولٍ أُرْسِلَ إلى أَهْلِ الأَرْضِ مِنْ بَعْدِ آدَمَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ؟ ولِمَا حَكاهُ أَبُو القاسِمِ الزمخشريُّ قالَ: "وليس بذاك" ولقد أصابَ. واسْتَدَلَّ مَنْ قالَ بِذلِكَ أَنَّ في حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "إنَّهُ عَمَلٌ غيرُ صالحٍ أَنْ تَسْأَلَني مَا لَيْسَ لكَ بِهِ عِلْمٌ" وهذا مُخالِفٌ للسَّوادِ الأعظمِ من القرّاءِ.
الثالث: أَنَّه يعودُ على رُكوبِ ابْنِ نُوحٍ المَدلولِ عليه بقولِهِ تعالى: {ارْكَبْ مَعَنا}.
الرابعُ: أَنَّهُ يَعودُ على تَرْكِهِ الرُّكوبَ وكَوْنِهِ مَعَ المُؤْمِنينَ، أَيْ: إِنَّ تَرْكَهُ الرُّكوبَ مَعَ المُؤْمِنينَ وكَوْنَهُ مَعَ الكافرينَ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، وعَلى الأَوْجُهِ الثَلاثَةِ لا يُحْتَاجُ في الإِخْبَارِ بالمَصْدَرِ إلى تَأْويلٍ، لأنَّ كِلَيْهِما مَعْنًى مِنَ المَعاني، وعَلى الوَجْهِ الرّابِعِ يَكونُ مِنْ كَلامِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَيْ: إِنَّ نُوحًا قالَ: إنَّ كونَكَ مَعَ الكافرينَ وتَرْكَكَ الرُّكوبَ مَعَنَا غيرُ صالِحٍ، بِخِلافِ مَا تَقَدَّمَ فإنَّهُ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعالى فَقَطْ، قالَهُ مَكِيٌّ وفيهِ نَظَرٌ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ الكُلَّ مِنْ كَلامِ اللهِ تَعالى. فلَمَّا نَفَاهُ عَنْ أَهْلِهِ نَفَى عَنْهُ صِفَتَهم بِكَلِمَةِ النَّفْيِ التي يَسْتَبْقي مَعها لفْظَ المَنْفِي، وآذنَ بِذَلِكَ أَنَّه إنَّما أَنْجى مَنْ أَنْجى لصلاحهم لا لأنَّهم أَهلُكَ.
قرأَ الجمهورُ: {فلا تسألني} وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "فَلَا تَسْأَلَنِّي" بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَهِيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةُ وَنُونُ الْوِقَايَةِ أُدْغِمَتَا. وَأَثْبَتَ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَنْ عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ. أَمَّا ابْنُ كَثِيرٍ فَقَرَأَ "فَلَا تسألنَّ" بنُونٍ مُشَدَّةٍ مَفْتُوحَةٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ "فَلَا تَسْأَلْنِ" بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمُعَدَّى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَأَكْثَرُهُمْ حَذَفَ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو. وفي سورةِ الكَهْفِ: {فَلاَ تَسْأَلْني عَنْ شَيْءٍ} الآية: 70. قرأَهُ أَبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هُنا، وافَقَهم ابْنُ كَثيرٍ في الكَهفِ، وأمَّا نافعٌ وابنُ عامرٍ فكقراءتهما هُنا، ولابْنِ ذَكْوانَ خِلافٌ في ثُبُوتِ الياءِ وحَذْفِها، وإنَّما قَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ التي في سورةِ هُودٍ بالفَتْحِ دونَ التي في الكَهْفِ؛ لأنَّ الياءَ في سورةِ هودٍ ساقطةٌ في الرَّسْمِ، فكانَتْ قِراءَتُه بِفَتْحِ النُّونِ مُحْتَملةً بخِلافِ سورةِ الكَهْفِ فإنَّ الياءَ ثابتةٌ في الرَّسْمِ فلا يُوافِق فيه فَتْحُها. فَمَنْ خَفَّف النونَ فهي نونُ الوقاية وحَدَها، ومَنْ شدَّدها فهي نون التوكيد. وابْنُ كثيرٍ لم يَجْعلْ في سورةِ هودٍ الفعلَ متَّصلاً بياءِ المُتَكلِّم، والباقون جعلوه، فَلَزِمهم الكسرُ.