فيضُ العليم ... سورةُ هود، الآية: 37
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ ورَسولِهِ نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، بأَنْ يَصْنَعَ سَفِينَةً عظيمةً بوحْيٍ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، وتَأْييدٍ، لِيُنْجِيَهُ هُوَ بِها هَوَ ومَنْ آمَنَ مَعَهُ، قال تعالى: "وَاصْنَعِ الْفُلْكَ" قَالَ نوحٌ: يَا رَبِّ وَمَا الْفلْكُ ؟. قَالَ ـ سبحانه: بَيْتٌ مِنْ خَشَبٍ يَجْرِي على وَجْهِ المَاءِ، فَأُغْرِقُ أَهْلَ مَعْصِيَتِي، وأُطَهِّرُ أَرْضِي مِنْهُم. قَالَ نوحٌ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ المَاء ؟. قَالَ اللهُ: إِنِّي على مَا أَشَاء قدير). هذا جِزْءٌ مِنْ حديثٍ طويلٍ أَخْرَجَهُ اسْحَقُ بْنُ بِشْرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، سَبَقَ أنْ نَقَلْنَا بعضَهُ.
و "بأَعْيُنِنَا" معناه: بِتَأييدِنا ورِعايَتِنا حتَّى لا يُعاديكَ في ذَلِكَ أَحَدٌ ولا يُحاوِلُ أَحَدٌ، مِنْ قومِكَ أَوْ مِنْ غَيْرِهم، مَنْعَكَ مِنْ صُنْعِها، أَوْ إيذاءَكَ. فأَخْبَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنَّهُ مَشْمُولٌ بِالعِنَايَةِ الإِلهِيَّةِ وَالرِّعَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، و "بِأَعْيُنِنا" أَيْ: بِحِفْظِنَا وَرِعَايَتِنَا الكَامِلَتَيْنِ. فإنَّ مُلابَسَةَ العَيْنِ كِنَايَةٌ عَنِ الحِفْظِ، ومُلابَسَةُ الأَعْيُنِ كِنايَةٌ عَنْ كَمالِ الحِفْظِ والمُبالَغَةِ فِيهِ، لِمَكَانِ الجَمْعِ. ونَظيرُه بَسْطُ اليَدِ فإنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الجُودِ، وبَسْطُ اليَديْنِ، للمُبَالَغَةِ فيه، وجُوِّزَ أَنْ يَكونَ المُرادُ الحِفْظَ الكامِلَ عَلى طَريقَةِ المَجازِ المُرْسَلِ، وذلك لِمَا أَنَّ الحِفْظَ مِنْ لَوَازِمِ الجارِحَةِ، وقِيلَ: المُرادُ مِنْ أَعْيُنِنا مَلائكَتُنا الذينَ جَعَلْناهم عُيونًا على مَواضِعِ حِفْظِكَ ومَعونَتِكَ، والجَمْعُ حِينَئِذٍ على حَقيقَتِهِ لا للمُبالَغَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، قَالَ: مَا وَصَفَ اللهُ ـ تبَارَكَ وتعالى، بِهِ نَفسَهُ فِي كِتَابِهِ فقِراءَتُهُ تَفْسِيرُهُ لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا بِالْفَارِسِيَّةِ.
و "وَحْيِنَا" إِلَيْكَ كَيْفَ تَصْنَعُها وتَعْليمِنَا لَكَ وإلْهامِنا، فقد كانَ سيِّدُنا نوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، نَجّارًا لكنْ لم يسبقْ أنْ رأى سَفِينَةً حتى يقلدَ في صنعها، لأنَّ سفينتَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانتِ الأولى في تاريخِ البَشَرِيَّةِ، وكانت بتعليمٍ مِنَ اللهِ تعالى. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: (لَمْ يَعْلَمْ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَيْفَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَها عَلى مِثْلِ جُؤْجُؤِ الطَّائِر). والأمرُ هنا للوُجوبِ، إذْ لا سَبيلَ إلى صِيانَةِ الرُّوحِ مِنَ الغَرَقِ إلَّا بِهِ، فيَجِبُ كَوُجوبِها.
وقيلَ: صَنَعَ ـ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، السفينةَ في سَنَتَيْنِ، وقيلَ أكثرَ من ذلك، وكانَتْ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وجُعِلَتْ ثلاثَةَ بُطونٍ، حُمِل في الأوَّلِ منها الوُحوشُ والسِّباعُ والهَوَامُّ، وفي الأوْسَطِ الدوابُّ والأَنْعامُ، وفي البَطْنِ الأَعلى هوَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَنْ مَعَهُ مِنَ البَشَرِ مَعَ ما يَحْتاجونَ إِلَيْهِ مِنَ الزادِ، وقيلَ حَمَلَ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ ـ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وقيلَ: حَمَلَ في الأَوَّلِ الدَّوَابَّ والوحوشَ، وفي الثاني الإنْسَ، وفي الأَعْلى الطَيْرَ. وقيلَ: كانَ طُولُ السفينةِ ثلاثَمِئةِ ذِراعٍ، وعَرْضُها خَمْسينَ ذِراعاً، وعُمْقُها ثَلاثينَ ذِراعًا. وقالَ الحَسَنُ البصريُّ ـ رضيَ اللهُ عنه: كان طولُها أَلْفًا ومِئَتَيّ ذِراعٍ، وعَرْضُها ستَّمئةِ ذِراعٍ.
وذُكِرَ: أَنَّ الحَواريَّينَ قالُوا لِنبيِّ اللهِ عِيسى ـ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ: لو بَعَثْتَ لَنا رَجُلاً شَهِدَ السَّفينَةَ يُحَدِّثُنا عَنْها، فانْطَلَقَ بِهمْ، حتّى انْتَهى إلى كَثيبٍ مِنْ تُرابٍ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُرابِ فَقالَ: أَتَدْرونَ مَنْ هَذا؟ قالوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: هذا كَعْبُ بْنُ حامٍ، قال: فَضَرَبَ بِعَصاهُ فقال: قُمْ بِإِذْنِ اللهِ. فإذا هوَ قائمٌ يَنْفُضُ التُرابَ عَنْ رَأْسِهِ وقدْ شابَ، فقالَ لَهُ عِيسى ـ عليْهِ السَّلامُ: أَهَكَذا هَلَكْتَ؟ قالَ: لا، مِتُّ وأَنَا شَابٌّ، ولكِنّي ظَنَنْتُ أَنَّها الساعَةُ، فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ، فقالَ: حَدِّثْنا عَنْ سَفينَةِ نُوحٍ، قالَ: كانَ طُولُها أَلفًا ومِئتَيْ ذِراعٍ وعَرْضُها سِتُّمِئَةِ ذِراعٍ، وكانتْ ثلاثَ طَبَقاتٍ طَبَقَةٌ للدَّوابِّ والوَحْشِ وطَبَقَةٌ للإنْسِ وطَبَقَةٌ للطَّيْرِ، ثمَّ قالَ عيسى ـ عليه السلامُ: عُدْ بإذْنِ اللهِ تَعالى كما كُنْتَ، فعادَ تُراباً.
قولُه: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيْ لا تُراجِعْني في هؤلاءِ الذينَ ظَلَموا أَنْفُسَهم بِكُفْرِهم بِمَوْلاهُم وخالِقِهِم، وتَكْذيبِهم رَسُولَهُ، إذ أوردوها سُوءَ العَذابِ، ولا تَدْعُني طالبًا لهُمُ العَفْوَ ورفْعَ العَذَابِ عنهم، فإنَّي معذِّبهم ولا ريبَ، ومُغْرِقُهم لا مَحالةَ، وقد أَكَّدَ هذا التَعْليلَ فقال: "إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ".
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخ عَنِ ابْنِ جُريجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْله: "وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا" يَقُولُ: لَا تُراجِعْني. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَة قَالَ: نَهى اللهُ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُرَاجِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحَدٍ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أيْ محكومٌ عَلَيْهم بالإغْراقِ؛ وقدْ جَرَى بِهِ القَضَاءُ وجَفَّ القَلَمُ فلا سَبيلَ إلى كَفِّهِ، والظاهِرُ أَنَّ المُرادَ مِنَ المَوْصولِ، مَنْ لم يؤمِنْ مِنْ قومِهِ مُطْلَقاً. وقِيلَ: المُرادُ واعلةُ زَوجَتُهُ. وكَنْعانُ ابْنُهُ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وهذا إِخْبارٌ بِما سَيَقَعُ، وبَيانٌ لِسَبَبِ الأَمْرِ بِصُنْعِ الفُلْكِ.
قولُهُ تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} والواوُ: حرفُ عطفٍ، و "اصْنَعْ" فِعْلُ أمرٍ مبنيٌّ على السكونِ الظاهرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُه "أَنْتَ" يَعودُ عَلى نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، و "الفُلْكَ" مفعولُهُ منصوبٌ به، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ} والتقدير: أُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ، و "بِأَعْيُنِنَا" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ، في محلِّ نصبِ حالٍ مِنْ فاعِلِ :اصنع" وضميرِ المعظِّمِ نفسَهُ "نا" في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه. و "وَوَحْيِنَا" معطوفٌ عَلَيْهِ، والتَقْديرُ: واصْنَعِ الفُلْكَ حَالَةَ كَوْنِكَ مَحْرُوسًا بِأَعْيُنِنا، ومُعَلَّمًا بِوَحْيِنا. واللامُ في "الفلك" إمَّا للعَهْدِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلى أَنَّ هذا مَسْبُوقٌ بِوَحْيِ اللهِ تَعالى إِلَيْهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنَّهُ سَيُهْلِكُهم بالغَرَقِ ويُنَجِّيهِ ومَنْ مَعَهُ بِشَيْءِ سَيَصْنَعُهُ بِأَمْرِهِ تَعالى ووحْيِهِ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يحملَه ومن مَعَهُ، واسْمُهُ الفُلْك، وإمَّا للجنسِ. والباءُ للمُلابَسَةِ.
قولُه: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} الواوُ: عاطفةٌ، "لا" ناهيَةٌ جَازِمَةٌ، "تُخَاطِبْنِي" فعلٌ مضارعٌ مجزوم بـ "لا" الناهية، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وجوباً تقديرُهُ "أنت" يَعودُ عَلى نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والنونُ للوقايَةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ في مَحلِّ جَرٍّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ: "اصنع" و "ظَلَمُوا" فعلٌ ماضٍ مبني على الرفعِ لاتَّصالِهِ بواوِ الفاعِلِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ لا محلَّ لها من الإعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفِعْلِ للتأكيدِ و "هُمْ" ضميرُ الغائبينِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ، و "مُغْرَقُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ، والنونُ عوضًا عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ النَهْيِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ الجمهورُ: {بَأَعْيُنِنا}، وقرأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "بِأَعْيُنَّا" فأدَغَمَ النُّونَ الأولى بالثانيَّةِ.