قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
(33)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ} قَالَ لَهُمْ نُوحٌ: إنَّ الذي طلَبْتُم مني أن آتيكم به من العذاب والعقاب ليس بيدي ولا بقدرة بشرٍ إنَّما هوَ مِنَ اللهِ وبِقُدْرَتِهِ تَعالى، يُنْزِلُهُ مَتى شاءَ، ويُحِلُّهُ بِمَنْ شَاءَ، فَلَيْسَ بِيَدِي، ولا بِيَدِ غَيْري، أَنْ يُنْزلَهُ، ولا أَنْ يَرْفَعَهُ إذا أَنْزَلَهُ اللهُ، فأَنَا لاَ أَمْلِكُ العَذَابَ الذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ، وإِنَّمَا الذِي سَيَأْتِيكُمْ بِهِ، وَيُعَجِّلُه لَكُمْ إنْ شاءَ، هُوَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
وفِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ" قَصْرُ قَلْبٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ طَلَبِهِمْ، حَمَلَا لِكَلَامِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ مُجَارَاةِ الَخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بِتَعَذُّرِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَهُ كَاذِبًا. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فأْتنا بِمَا تعدنا" قَالَ: تَكْذِيبًا بِالْعَذَابِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ.
قولُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وقدْ سَمِعْتم وعايَنْتُم ما نَزَلَ بالأُمَمِ غَيركم التي عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها قبلَكم، فامْشُوا في مَسَاكِنِهم، وانْظُروا في آثارِهِم، واعْتَبِروا بِما حَلَّ بِهم من عذاب اللهِ وسَخطِهِ، واعْلَمُوا أَنَّكم غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ الذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ أرادَهُ.
وفي ردِّ نوحٍ ـ عليه السّلامُ، على قومِه: ما لا يَخْفَى مِنْ تَهْويلِ العذابِ المَوْعودِ، كما في الإتْيانِ بالاسْمِ الجَليلِ الجامِعِ "الله" تَأْكيدٌ لِذَلِكَ التَهْويلِ.
قولُهُ تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُهُ "هو" يَعودُ على نُوحٍ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ. و "إِنَّمَا" هذا التركيب من "إنَّ" الناصبةِ الناسخةِ المُؤكِّدَةِ و "ما" النافيةِ يفيدُ الحَصْرٍ، و "يَأْتِيكُمْ" يأتي: فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ، وعلامة رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخرهِ لثقلِ ظهورها على الياءِ، و ضميرُ جماعةِ المُخاطَبينَ "كُمْ" متَّصلٌ به في محَلِّ نَصْبِ مفعولِهِ، و "بِهِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ ب "قَالَ".
قولُهُ: {إِنْ شَاءَ} إِن: حَرْفُ شَرْطٍ، و "شَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازاً تقديرُهُ "هو" يَعودُ على اللهِ تعالى، والجملةُ في محلِّ الجَزْمِ، بـ "إِنْ" عَلَى أنَّها فِعلُ شَرْطٍ لَهَا، وجَوابُ الشرطِ مَعلومٌ مِمّا قَبْلَها والتَقديرُ: إِنْ شاءَ يَأْتيكمْ بِهِ، وجُملَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةُ في مَحَلِّ النَصْبِ، ب "قَالَ".
قولُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} وَمَا: والواو: حاليَّةٌ، و "ما" حِجازِيَّةٌ، أو تَميميَّةٌ لِعَدَمِ ظُهورِ الإعْرابِ في الخَبَرِ، و "أَنْتُمْ" ضميرُ جماعةِ المخاطبينَ المنفصل في محلِّ رفعِ اسْمِها، إنْ أعربتْ حجازيَّةً، أوْ في محلِّ رفعِ مُبْتَدأٍ إنْ كانت التميميَّةَ، و "بِمُعْجِزِينَ" الباءُ: حرفُ جرِّ زائدٌ، و "معجزين" مجرورٌ لَفْظاً بالباءِ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ مذكَّرٍ سالمٌ، والنونُ عِوَضاً عَنِ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وهو منصوبٌ مَحَلًّا بِ "مَا" الحِجَازِيَّةِ، على أنَّهُ خبرها، أوْ هو مرفوعٌ محلًّا على أنَّهُ خبرُ المُبتَدأِ، إذا أعربتْ "ما" تميميَّةً، والجُمْلَةُ هذه في محلِّ النَّصْبِ بِ "قَالَ".