قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(108)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} يأمُرُ الله تعالى نبيَّه محمَّداً ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، أنْ يَتَوَجَّهَ لِلنَّاسِ جَميعاً على مَرِّ الدُهورِ وكَرِّ العصورِ، وفي المقدِّمَةِ أُولئكَ الكَفَرَةُ الفجرةُ، الذين بَلَغَتْهم دَلائلُ التَوحيدِ والنُبُوَّةِ والمَعادِ، وأَنْ ينذِرَهم بهذا الخطاب البلاغي، بأَنَّه إنَّما يُبَلِّغُهم ما أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ لَهمْ مِنَ الحَقِّ، وهوَ القرآنُ الكريمُ والشرْعُ القويمُ الذي جاءَهُ بِهِ الوحيُ السماويٌّ، وهو الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ. وَافْتِتَاحُ الخطابِ بِالنِّدَاءِ لِاسْتِيعَاءِ أسْمَاعِهِمْ لِأَهَمِّيَّةِ مَا سَيُقَالُ لَهُمْ.
قولُهُ: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} بَدَأَ الحقُّ ـ تبارك وتعالى، خِطابَ الناس بذكرَ المهتدين تشريفاً لهم، فَمَنْ اهْتَدَى بِهَدْيِ مولاهُ تَعالى وَاتَّبَعَ رسولَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسارَ على نَهْجِهِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ بالنَفْعِ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّ اللهَ وَضَعَ هذِهِ التَعاليمَ، لِيَنْتَفِعَ بها عِبادُهُ في الحياة الدُنيا وفي الآخِرَةِ، ولا غايَةَ أخرى لَهُ. أَمَّا هوَ سُبْحانَهُ فمُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ إليهُ نَفْعٌ أَوْ أن يَلْحَقَ بِهِ ضَرَرٌ، فالحاجةُ للنفعِ إنَّما تَكونُ عَنْ نَقْصٍ، واللهُ سبحانَهُ لَهُ الكَمالُ المُطْلَقُ الذي لا يَعْتَريهِ نَقْصٌ، والحاجة تعني الضعفَ أيضاً وهو القويُ على الإطلاق وكلُّ قوةٍ فهي منه مكتسبةٌ. والذي يَنْفَعُ غَيْرَهُ يَكونُ أَقٌوى مِنْه وأَقْدَرَ وهو ـ جَلَّ وعَزَّ، الأقوى فلا قَوِيَّ غيرُهُ، وهوَ المُقْتَدِرُ فلا قُدْرَةَ لأَحَدٍ مَعَ قُدْرَتِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} وَمَنْ يضَلُّ عَنْ هذا الطريق القويمِ والصِراطِ المُسْتَقيمِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وحدَهُ. أمّا اللهُ ـ تبارك وتعالى، فإنَّه منزَّهٌ عن ذلك أيضاً فكما تنزَّه عن النفع، كلك فقد تنزَّه عن أنْ يصله ضرَرٌ، لأنَّ القُوَّةَ والاقْتِدارَ منه جميعاً.
قولُه: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} هِيَ حقيقة الرسالة التبليغُ عَنِ اللهُ تَعَالَى، فإنَّ الرَسُولَ غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِدَايَة مَنْ أُرْسِلَ إليهِمْ، بمعنى أن يخلقها فيهم أو يحملهم عليها، وَليس عليهم بِمُسَيْطِرٍ، وَإِنَّمَا الهَادِي هُوَ اللهُ، الذي يهدي من يشاءُ ويُضلُّ من يشاء، كما ينفعُ من يشاء ويضرُّ من يشاءُ فالأمرُ منه صادرٌ وإليه عائدٌ. وهكذا فإنَّنا نجد في هذه الآيةِ الكريمةِ متابعةً لمضمون ما سبقها وتأكيدٌ عليه وهي تميدٌ لختم هذه الاسورة الكريمة. وذكر ابْنُ عطيَّة في المحررِ الوجيز أنَّ "وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ" مَنْسوخَةٌ بالقِتالِ. وهو قولُ ابْنِ عباسٍ، ومقاتلِ بْنِ سليمان، والثعلبيِّ، والرازيِّ، وغيرُهم من أهل التفسير.
قولُهُ تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكم} قُلْ: فعلُ أَمْرٍ، وفاعلُهُ "أنت" ضميرٌ مستترٌ وجوباً يعودُ على سيدنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذه الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "يَا" أداةُ نِداءٍ، و "أيُّ" مُنادى مبنيٌّ على الرفعِ في محلِّ نصبٍ على أَنَّه نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ. و "ها" للتَنْبيهِ، و "النَّاسُ" نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ مَبْنِيٌ على الضَمِّ في مَحَلِّ نَصْبٍ، صِفَةً لِ "أيُّ"، أَوْ بَدَلاً منها، أو عَطْفَ بيانٍ لها، تبعها في الرَفْعِ لَفْظاٌ، وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصبِ بالقولِ لِ "قُلْ". لا عملَ لها، و "قَدْ" للتحقيق، و "جَاءَكُمُ" فعلٌ ماضٍ والكافُ مَفْعولُهُ، والميمُ للجمعِ المذكَّر، و "الْحَقُّ" فاعلُهُ، و "مِنْ رَبِّكُمْ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "جاء" أو حالٌ مِنَ "الْحَقُّ"، والكافُ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والميم للجمع المذكَّر، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ لا عمل لها كونَها جوابَ النِّداءِ.
قولُه: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فَمَنِ: الفاءُ: حرفُ عطْفٍ وتَفْصيلٍ، و "من" اسْمُ شَرْطٍ جازَمٍ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعٍ بالابْتِداء، وخبرُهُ جُمْلَةُ الشَرْطِ، أوِ الجوابُ، أو هُما معاً، و "اهْتَدَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّر على الألف المقصورة للتعذُّرِ في محلِّ جزمٍ بـِ "مَنْ" كَوْنَهُ فِعْلَ شَرْطٍ لَها، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُه "هو" يَعودُ على "مَنْ". و "فَإِنَّمَا" الفاءُ: رابِطَةٌ لِجوابِ "من" الشَرْطيَّةِ. فهي واجبةُ الدخول، ويجوزُ أنْ تُعْرَبَ "منْ" اسماً موصولاً بمعنى "الذي" فيكون دخولُ الفاءِ عند لك جائزاً. و "إنما" أَداةُ حَصْرٍ ونَفْيٍ، وهي كافَّةٌ مكفوفةٌ عَنِ العَمَلِ. و "يَهْتَدِي" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدَّرةٌ على آخره، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى "مَنْ" أيضاً. و "لِنَفْسِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ متعلِّقٌ بِ "يهتدي"، والهاءُ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ، وجملةُ: "يَهْتَدِي" في مَحَلِّ الجَزْمِ بـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ على كونِها جَوابًا لَها، وجملةُ "من" الشَرْطِيَّةِ مع فعلها وجوابها، في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عطفاً على الجملَةِ من قولِهِ: "قَدْ جَاءَكُمُ".
قولُهُ: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} إعرابُها كإعراب سابِقَتِها تماماً.
قولُهُ: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} الواو: عاطفةٌ و "ما" هي الحجازِيَّةُ تعملُ عملَ ليس، ف "أَنَا" اسْمُها، أو تميميَّةٌ ف "أنا" مبتدأ. و "عَلَيْكُمْ" مُتَعَلِّقٌ بـِ "وكيل". و "بِوَكِيلٍ" الباء حرف جرٍّ زائد و "وكيل" خبَرُ "ما" الحِجازَيِّةِ مَنْصوبٌ محلاًّ مجرورٌ لفظاً بحرف الجرِّ الزائد، أَوْ خبرُ المُبْتَدَأِ إذا أعربنا "ما" تميميةً، مرفوعٌ محلاً، مجرورٌ، لفظاً، وجملَةُ "ما" الحجازيَّةِ، أوْ المُبْتَدأُ وخبرُهُ في مَحَلِّ النَصْبِ بالقول عَطْفاً عَلى جملةِ "من" الشَرْطِيَّةِ. وثمَّةَ طباقٌ بين "اهْتَدى" وَ "ضَلَّ" وهو بابٌ منْ أبوابِ البديع.