قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(16)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} خطابٌ جديد للرسولِ ـ عليْهِ الصلاةُ والسلامُ، في الردِّ على المشركين ودفع شُبهاتهم وإقامةِ الحجَّةِ عليهم، قُلْ لَهُمْ أيها النبيُّ: إِنَّنِي إِنَّمَا جِئْتُكُمْ بِهَذا القُرْآنِ بِإِذِنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوُ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ مَا تَلَوْتُهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لاَ يُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ، لَمَا أَرْسَلَنِي، وهوَ جَوابٌ عَنْ لازِمِ اقْتِراحِهم عَلى الرَّسولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، تَبْديلَ القُرْآنِ واتهامِهم لَهُ بالكَذِبِ فيما ادَّعى عَنِ اللهِ تعالى مِنْ إرْسالِهِ، وإنْزالِ القُرآنِ الكريمِ على قلبه الشريف، كما تَقَدَّمَ في الجوابِ قَبْلَهُ. ولكونِهِ جواباً مُسْتَقِلاً عَنْ معنىً قَصَدوهُ مِنْ كلامِهمْ، جاءَ الأَمْرُ بِهِ مَفْصولاً عَنِ الأَوَّلِ غيرَ مَعْطوفٍ عَلَيْهِ تَنْبيهاً عَلَى اسْتِقْلالِهِ، وأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْمِلَةٍ للجَوابِ الأَوَّلِ. وفي هذا الجَوابِ اسْتِدْلالٌ على أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ تَعالى، وأَنَّهُ لم يَخْتَلِقِ القُرآنَ مِنْ عِنْدِهِ، بِدليلٍ حوى في مَطاوِيهِ أَدِلَّةً، وقد قام فيه الدليلُ على إثباتِ المطلوبِ بانتفاءِ نقيضِهِ، فقولُهُ: "لو شاء الله ما تلوته" معناهُ لوْ شاءَ اللهُ أَنْ لا أَتْلوَهُ عَلَيْكم ما تَلَوْتُهُ. فإنَّ فِعْلَ المَشيئَةِ يَكْثُرُ حَذْفُ مَفْعولِهِ في جملَةِ الشَرْطِ لِدَلالَةِ الجَزاءِ عَلَيْهِ، وإنَّما بَني الاسْتِدْلالَ على عَدَمِ مَشيئَةِ اللهِ تعالى نَفْيَ تِلاوتِهِ لأن َّذلك مُدَّعى الكُفارِ لِزَعْمِهم أَنَّه لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فكانَ الاسْتِدْلالُ إبْطالاً لِدَعْواهم ابْتِداءً، وإثْباتاً لِدَعْواهُ مآلاً. وهذا الجمعُ بَينَ الأَمْرَيْنِ مِنْ بَديعِ الاسْتِدْلالِ، أَيْ لَوْ شاءَ اللهُ أَنْ لا آتيكُمْ بهذا القُرآنَ لما أَرْسَلَني بِهِ ولَبَقيتُ على الحالَةِ التي كُنْتُ عَلَيْها مِنْ أَوَّلِ عُمْري وحتى بعثتي وهي ليست بالقليلةِ إنها أربعون عاماً.
والدليلُ الثاني هوَ مُقْتَضى جَوابِ "لَوْ"، فإنَّ جوابَها يَقْتَضي اسْتِدْراكاً مُطَّرِداً في المعنى، بِأَنْ يُثْبِتَ نَقيضَ الجَوابِ، فقد يُسْتَغنى عَنْ ذِكْرِهِ، وقدْ يُذْكَرُ، كَقول أبَيِّ بْنِ سُلْمِي بْنِ رَبيعةَ:
فلو طَار ذو حافر قبلها ........................ لطارت ولكنه لم يطر
فإنَّ تقديره: لو شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ لكنّني تَلَوْتُهُ عَليكم. وهذا دَليلُ الرِّسالَةِ لأنَّ تِلاوَتَهُ تَتَضَمَّنُ إعْجازَهُ عِلْميّاً إذْ جَاءَ بِهِ مَنْ لم يَكُنْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والحِكْمَةِ الذين دَرَسوا ذلك وتَعلموه، وقد جاءَ كلامُهُ مُعْجِزاً لأهلِ اللُّغَةِ كُلِّهم مَعَ تَضافُرِهم في بَلاغَتِهم على تَفاوُتِ مَراتِبِهم، وليس مِنْ شأْنِ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ أَنْ يَكونَ متفوِّقاً على جميعِهم، بحيثُ لا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ منهم مجتَمعينَ ومُتَفَرِّقين أَنْ يَأْتي بمثلِ كلامِهِ وما يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عُلُومٍ ومعارفَ، لا يَطَّلِعُ عَلَيْها غَيرُ أَهْلِها، وأُخرى ليسَ مِنْ شَأْنِ أَحَدٍ أَنْ يَعْلَمَها غَيرُ خالِقِها. والتِلاوةُ: قراءةُ المكتوبِ أَوِ اسْتِعراضُ المحفوظِ، فهي مُشْعِرَةٌ بإبلاغِ كلامٍ مِنْ غيرِ المُبَلِّغِ وقد تقدَّم.
قولُهُ: {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} وَلو شاءَ أيضاً لَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، أَيْ: ولا أَعْلَمَكمْ اللهُ بِهِ، وَلكِنَّهُ سبحانَهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا العِلْمِ لِتَهْتَدُوا، وَتَكُونُوا خَلائِفَ فِي الأَرْضِ. وهوَ مِنْ دَرَيْتُ، أَيْ: عَلِمْتُ. ويُقالُ: دَرَيْتُ بِكَذا أَيْ: أَحَطْتُ بِهِ بِطَريقِ الدِّرايَةِ، وأَدْرَيْتُكَ بِكَذا، أَحَطتُكَ به علماً. وكذا قولُكَ "عَلِمْتُ بِهِ"، فَقد تَضَمَّن العِلْمُ أيضاً مَعْنى الإِحاطَةِ فتَعَدَّى تَعْدِيَتَها.
والتقديرُ: أَفَلا تَعْقِلونَ أَنَّ مِثْلَ هذا الحالِ مِنَ الجَمْعِ بينَ الأُمِيَّةِ والإتْيانِ بهذا الكِتابِ البَديعِ في بَلاغَتِهِ ومعانيهِ لا يَكونُ إلاَّ حالَ مَنْ أَفاضَ اللهُ عَليهِ رِسالَتَهُ إذْ لا يَتَأَتّى مِثلُه في العادَةِ لأحَدٍ ولا يَتَأَتّى ما يُقارِبُه إلاَّ بَعدَ مُدارَسَةِ العُلَماءِ ومُطالَعَةِ الكُتُبِ السالِفَةِ، ومُناظَرَةِ العُلَماءِ، ومحاوَرَةِ أَهلِ البَلاغَةِ مِنَ الخُطباءِ والشعراءِ، زَمَناً طَويلاً وعُمْراً مَديداً، فكيفَ تَأَتَّى ما هُوَ أَعْظمُ مِنْ ذلك المعتادِ دَفْعَةً واحدةً لمن قَضى عُمُرَهُ بَيْنَهم في بِلادِهِ يَرْقبونَ أَحْوالَهُ صَباحَ مَساءَ، وما عُرِفَ بَلَدُهم بِمُزاوَلَةِ العُلومِ، ولا كان فيهم مِنْ أَهْلِ الكِتابِ إلاَّ مَنْ عَكَفَ على العِبادَةِ وانْقَطَعَ عَنْ مُعاشَرَةِ الناسِ.
قولُهُ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} العُمُرُ: الحياةُ. مُشْتَقٌّ مِنَ العُمْران، لأنَّ مُدَّةَ الحياةِ يَعْمُرُ بها الحَيُّ العالَمَ الدُنْيَوِيَّ. ويُطْلَقُ العُمُرُ على المُدَّةِ الطَويلَةِ التي لو عاشَ المَرْءَ مِقْدارَها لَكانَ قَدْ أَخَذَ حَظَّهُ مِنَ البَقاءِ. وهذا هُوَ المُرادُ هُنا، بِدَليلِ تَنْكيرِ "عُمراً"، وَلَيْسَ المرادُ لَبِثْتُ مُدَّةَ عُمُري، لأنَّ عُمُرَهُ لمْ يَنْتِهِ، بَلْ المُرادُ مُدَّةٌ قَدْرُها قَدْرَ عُمُرٍ مُتَعارَفٍ عليه، أَيْ بِقَدْرِ مُدَّةِ عُمُرِ أَحَدٍ مِنَ النّاسِ. والمعنى لَبِثْتُ فيكم أَرْبَعينَ سَنَةً قَبْلَ نُزولِ القُرآنِ. فَقَدْ عِشْتُ فِيكُمْ وَبَيْنَكُمْ سِنِينَ طَوِيلَةً مِنْ عُمْرِي لَمْ أُبَلِّغْكُمْ خِلاَلَهَا شَيئاً، لأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ بِرِسَالَتِهِ، فَلَمَّا أَوْحَى إِلَيَّ بها، وَأَمَرَنِي بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ إيّاها فَعَلْتُ، أَلَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ؟. وهذا تذكيرٌ لهم بِقَديمِ حالِهِ المَعروفَةِ بَيْنَهم، حالَ الأُمِيَّةِ، أَيْ قَدْ كُنْتُ بَين ظَهرانيكم مُدَّةً طَويلَةً، تُشاهدونَ أَطْوارَ نَشْأَتي، فلم تروا فيها ما يُشْبِهُ حالَةَ العَظَمَةِ، والكَمَالِ المُتَناهي الذي صِرتُ إليه لما أَوْحَى اللهُ إلي بالرِسالَةِ، ولا سمعتم مني بَلاغَةً كالتي تسمعونَ اليومَ، ولا اشْتُهِرتُ بمقاوَلَةِ أَهْلِ البَلاغَةِ ولا زاحمتُ أَهْلَ الشِعْرِ والخِطابَةِ بما يشبِهُ بَلاغَةَ القولِ الذي نَطَقتُ بِهِ عَنْ وَحْيٍ وهو القُرآنُ. إذْ لَوْ كانَتْ حالَتُهُ بَعدَ الوَحْيِ حالاً مُعْتادةً، وكانَتْ بَلاغَةُ الكلامِ الذي جاءَ بِهِ كَذلِكَ لَكانَ لَهُ مِنَ المُقَدِّماتِ مِنْ حِين نَشْأَتِهِ ما هُوَ تهيِئَةٌ لهذِهِ الغايَةِ، ولكانَ التَخَلُّقَ بِذلِكَ أَطْواراً وتَدَرُّجاً. فقد دَلَّ عَدَمُ تَشابُهِ الحالينِ عَلى أَنَّ هَذه الحالَ الأَخيرةَ حالٌ رَبَّانيٌّ محْضٌ، وأَنَّ هَذا الكلامَ ليس لَهُ فِيهِ كَسْبٌ.
قولُهُ: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} في هَذِهِ الآيةِ الكَريمَةِ حُجَّةٌ واضِحَةٌ على كُفَّارِ مَكَّةَ؛ لأنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لمْ يُبْعَثْ رَسولاً إليهم حتى لَبِثَ فيهم عُمُراً مِنَ الزَمَنِ، عَرَفوا فيه صِدْقَهُ، وأَمانَتَهُ، وعَدْلَهُ، وبعدَه كلَّ البُعْدِ مِنَ الكذِبِ، وكانوا في الجاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ الصادق الأَمينَ، وقدْ أَلْقَمَهُمُ اللهَ حَجَراً بهذِهِ الحُجَّةِ في سورة المؤمنون بقولِه: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الآية: 69، فمَنْ لم يَكْذِبْ على مخلوقٍ قطُّ كيفَ يكذبُ على اللهِ تعالى، الأمرُ الذي قالهُ هِرَقْلُ الرومِ لأبي سفيانَ بْنِ حَرْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لما سأَلَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكان لا يزالُ مشركاً حينَها، فقَالَ لَهُ هِرَقْل: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لاَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ لِيَكْذِبَ عَلَى اللهِ.
وقالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبي طالِبٍ للنَّجاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ: بَعَثَ اللهُ فِينا رَسُولاً نَعْرِفُ نَسَبَهُ وصِدْقَهُ وأَمانَتَهُ، وقدْ كانَتْ مُدَّةُ مُقامِهِ، عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، بَينَ أَظْهُرِنا قَبْلَ النُبُوَّةِ أَرْبعينَ سَنَةً. وكانَ عمرُو ابنُ العاصِ ـ رضي الله عنه، حاضِراً على رأسِ وفدِ قريش الذي وفدَ على النَجاشي لاسْتِردادِ هؤلاءِ الفارِّينَ بِدينِهم مِنْ قُريشٍ، فلمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُنْكِرَ مَقالَةَ جَعفر ـ رضي الله عنه، بالرغم من كونِه مُشركاً يومها لأنَّ قريشاً كلَّها تَعْرِفُ صِدْقَ محمَّدٍ وأَمانَتَهُ ولا يَسْتَطيعٌ أَحَدٌ منهم أنْ يُنكرَ ذَلِكَ، فما كان مِنَ النَجَاشِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إلاَّ أَنْ رَدَّ وَفْدَ قريشٍ خائباً وَرَدَّ عليهم هداياهم، ثمَّ أَسْلَمَ بعدَ ذَلكَ لِما سمِعَ مِنْ قرآنٍ.
قولُهُ تَعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ} مَفعولُ شاءَ محذوفٌ يُنْبِئُ عَنْهُ الجزاءُ لا غيرُ، وإنَّما يُحْذَفُ مفعولُ المشيئةِ إذا وَقَعَتْ شَرْطاً وكانَ مَفْعولُها مَضْمونَ الجزاءِ ولم يَكُنْ في تَعَلُّقِها بِهِ غَرابةٌ كما في قولِ أَبي يعقوب الخُرَيْمي، واسمُه: إسحاقُ مولى بَني خُريمٍ، مِنْ شُعَراءِ عَصْرِ الرَشيدِ، قال يَرثي حَفيدَهُ أَبا الهَيْذامِ ابْنَ ابْنِه عِمارَةَ:
لو شئتُ أَنْ أَبكي دَمَاً لَبَكَيتُهُ ........ عليكَ ولكنْ ساحَةُ الصَبْرِ أَوْسَعُ
والبيتُ مِنْ قصيدةٍ لَهُ جيّدَةٍ على البحرِ الطَويلِ عُدَّتْ مِنْ غُررِ الشِعْرِ، ومِنْ أَبياتِهِ النادِرَةِ وأَمثالِهِ السائرَةِ قولُهُ:
وأَعْدَدْتُهُ ذُخْراً لِكُلِّ مُلِمَةٍ ............... وسهمُ الرزايا بالذَخائرِ مُولَعُ
وأَوَّلها:
قضى وَطراً منك الحبيب المودِّعُ ........ وحلَّ الذي لا يُسْتَطاعُ فيُدْفَعُ
إلى أَنْ يقولَ فيها:
يُذَكِّرُني شمسَ الضُّحى نُورُ وَجْهِهِ ........ فلي لحظاتٌ نحوَها حِينَ تَطْلعُ
ألم تَرَني أَبْني على الليثِ بُنيةً ........... وأَحْثي عَلَيْهِ التُرْبَ لا أَتَخَشَّعُ
وإني وإنْ أَظْهَرْتُ مِني جَلادةً .......... وصانَعْتُ أَعْدائي عَلَيْهِ لَمُوجَعُ
مَلَكْتُ دُموعَ العَينِ حتى رَدَدْتُها ..... إلى ناظري إذْ أَعْيُنُ القَلْبِ تَدْمَعُ
وبعده البيت، وبعده:
وأَيْقَنْتُ أَنَّ الحيَّ لا بُدَّ هالِكٌ .............. وأَنَّ الفَتى في أَهْلِهِ لا يُمَتَّعُ
حيثُ لم يحُذَفْ لِفِقْدانِ الشَرْطِ الأَخيرِ. ولأنَّ المُسْتَلْزِمَ للجَزاءِ، أَعني عدمَ تلاوتِهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، للقُرآنِ عَليهم، إنَّما هُوَ مَشيئَتُهُ تَعالى لَهُ لا مَشِيئتُه لِغَيرِ القُرآنِ.
قولُه: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} عُمُراً: مُشَبَّهٌ بِظَرْفِ الزَمانِ فانْتَصَبَ انْتِصابَهُ، أي: مُدَّةً مُتَطاوِلَةً. وقيل: هوَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: مِقْدارَ عُمُرٍ. والضميرُ في "قبله" عائدٌ على القرآنِ. وقيل: على النُزولِ. وقيلَ: على وَقْتِ النُزولِ. وجملة "فقد لبثت" معطوفة على جملة "أدراكم"، لا محل لها. و "قبل" و "بعد" إذا أُضيفا للذَوَاتِ كانَ المُرادُ بعضَ أَحوالِ الذاتِ ممّا يَدُلُّ عليهِ المَقامُ، أَيْ مِنْ قبلِ نُزولِهِ. وضميرُ "قبلِهِ" عائدٌ إلى القُرآنِ.
قولُهُ: {أفلا تعقلون} هذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وتَفريعُها على جملَةِ الشَرْطِ وما تَفَرَّعَ عَليها تفريعٌ للإنكارِ والتَعَجُّبِ على نهوضِ الدَليلِ عَلَيهم، إذْ قَدْ ظَهَرَ مِنْ حالهم ما يجعلُهم كَمَنْ لا يَعْقِلُ. ولذلكَ اخْتيرَ لَفْظُ "تعقلون" لأنَّ العقلَ هُوَ أَوَّلُ دَرَجاتِ الإدْراكِ. ومفعولُ "تعقلون" إمَّا محذوفٌ لِدَلالَةِ الكلامِ السابقِ عَلَيْهِ. وإمَّا أَنْ يُنَزَّلَ "تعقلون" منزلة اللازمِ فلا يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعولٌ، أَيْ: أَفلا تَكونونَ عاقِلينَ، أَيْ: فتَعْرِفوا أَنَّ مِثْلَ هذا الحالِ لا يَكونُ إلاَّ مِنْ وَحْيِ اللهِ.
قرأ الجمهورُ: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}، بفتح الراءِ، وقرأَ أَبو عَمْرٍو، وحمزة، ونافع، في رواية ورْشٍ والكِسائي: "ولا أدريكم" بكسرها، وقرأ البزي عنِ ابنُ كثير بخلاف "ولأَدْراكم" بلامٍ داخلَةٍ على "أَدْراكم" مُثْبَتاً. والمعنى: ولأَعْلِمَكم بِهِ مِنْ غيرِ وِساطَتي: إمَّا بِوِساطَةِ مَلَكٍ أَوْ رَسولٍ غيرِي مِنَ البَشَرِ، ولكنَّهُ خَصَّني بهذه الفضيلةِ. وقراءةُ الجُمهورِ "لا" فيها مؤكدةٌ؛ لأنَّ المعطوفَ على المنفيّ مَنْفيٌّ، وليست "لا" هذه هي التي يُنْفَى بها الفعل، لأنَّه لا يَصِحُّ نفيُ الفعلِ بها إذا وَقَعَ جَواباً، والمعطوفُ على الجوابِ جَوابٌ، ولو قلتَ: (لو كان كذا لا كانَ كذا) لم يَجُزْ، بلْ تَقولُ: ( لو كان كذا ما كان كذا). وقرأَ ابْنُ عبَّاسٍ والحَسَنُ بْنُ أبي الحسنِ، وابْنُ سيرينَ، وأَبو رَجاء بنُ حَيَوَةَ: "ولا أَدْرَأْتُكم به" بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَ الراءِ. وفي هذه القراءةِ تخريجان، أَحدُهما: أَنَّها مُبْدَلةٌ مِنَ أَلِفٍ، والألفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ لانْفِتاحِ ما قبْلها وهي لُغةٌ لِ "عُقَيْلٍ" حكاها قُطْرُبٌ، يَقولونَ في أَعطيتُك: أَعْطَأْتُك. وقال أَبو حاتمٍ: قَلَبَ الحَسَنُ الياءَ أَلِفاً، كما في لُغَةِ بَني الحَرْثِ، يَقولونَ: عَلاَك وإلاك، ثمَّ هَمَزَ على لُغَةِ مَنْ قالَ في "العالَمِ" "العَأْلَم"، وقيل: بَلْ أُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ مِنْ نَفْسِ الياءِ نحو: (لَبَأْتُ بالحجِّ) أي: لَبَّيْتُ، و (رثَأْتُ فلاناً)، أي: رَثَيْتُ. والثاني: أَنَّ الهمزةَ أَصْلِيَّةٌ وأَنَّ اشْتِقاقَه مِنَ الدَّرْءِ وهوَ الدَّفْعُ كقولِهِ تعالى في سورة النورِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العذاب} الآية: 8، ويقال: أَدْرأته، أي: جَعَلْته دارِئاً، والمعنى: ولأَجْعَلَنَّكم بتلاوتِهِ خُصَماءَ تَدْرَؤُونني بالجدال. قال أبو البقاء: وقيل: هو غَلَط، لأنَّ قارِئَها ظَنَّ أنها مِنَ الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ. وقيل: ليس بغلطٍ والمعنى: لو شاء الله لدَفَعَكم عن الإِيمان به. واللهُ أعلم. وقرأَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبَ والأَعْمَشُ: "ولا أَنْذَرْتُكم" مِنَ الإِنْذارِ، وكذلك هي في حَرْفِ عَبْدِ اللهِ ابنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه.
قرأ العامَّةُ: {عُمُراً} بضمِّ الميمِ، وقرأَ الأَعْمَشُ "عُمْراً" بِتسْكينِها وهو كَقَوْلِهم: "عَضْد" في "عَضُد".