وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(11)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} انْتِقالٌ مِنَ الحديثِ عَنْ دُعاءِ المؤمنينَ في الجَنَّةِ، الذي تَحَدَّثتْ عَنْهُ الآيَةُ الكَريمةُ السابِقَةُ، إلى دُعائهم لَهُ في الدُنْيا، وإذا كانَ دُعاؤهم لَهُ هُناكَ تَسْبيحٌ تُلَبِّيهِ مَلائِكَتُهُ مُسْرِعَةً بِأَصْنافِ الطَعامِ وألوانِ الشرابِ، سمعاً لمولاهمُ الكريمِ، وطاعةً له ـ سبحانَهُ وتعالى، فإنَّ تَلْبِيَتَهُ دُعاءَهُم هنا في الحياةِ الدُنيا، هي دَليلٌ آخَرُ على تَكَرُّمِهِ عَلَيْهم وتلطُّفِهِ بهم، فهُم هُناكَ لا هَمَّ لهم ولا غَمَّ، ولا مُزْعِجَ ولا إِزْعاجَ، لِذلكَ فالدُعاءُ هناك يُتَرْجِمُ حالَ عَيْشِهِمُ السَّعيدِ، ورِضاهم عَنْهُ فيُعبِّرونَ عَنْ سعادتهم وامْتِنانِهم بالحَمْدِ والشُكْرِ والتَسْبيحِ، أَمّا هُنا في حياتهمُ الدُنيا فإنَّ عيشَهم بينَ سَعادَةٍ ورَّخاءِ، وشِدَّةِ وشَقاءِ، وقد يَكونُ مُزْعِجُهم مِنْ أَنْفُسِهم فَيَدْعُونَ عَلَيْها بالشَرِّ، أَوْ مِنْ أَقْرَبِ المُقَرَّبينَ إِليهم فيَدْعونَ عَلَيْهم بالسوءِ، لكنَّ اللهَ تَعالى لا يَسْتَجيبُ لهم هذا الدُعاءَ، أَوْ يُؤَخِّرُهُ، كَرَماً مِنْهُ تعالى عليهم ولُطْفاً بهم، لأَنَّهم في الغالِبِ سَيْنْدَمونَ بعدَ ذَلِكَ إذا ما زال غضبهم وفارقهم انفعالهم، وعادوا إلى هُدوئهم وسَكينَتِهم. بَيْنَما يُعَجِّلُ لهم مَا كانَ مِنْهُ فيه خيرُهم، كرماً منه وفضلاً، ولو أَنَّه عجّلَ لهم بالشَرِّ كما يُعَجِّلُ لهم في الخَيرِ لأهْلَكَهم.
وفيه دليلٌ على عَجَلَةِ ابْنِ آدَمَ وتسرُّعِهِ وسُرْعَةِ انْفِعالِهِ الذي قدْ يُورِدِهُ مَوارِدَ الهَلاك.
ففي هذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ يُخْبِرُنا اللهُ تَعَالَى مولانا الحليمُ الكريمُ عَنْ حِلْمِهِ على عبادِهِ وَلُطْفِهِ بِهِم، وَيَقُولُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ بِالشَّرِّ فِي حَاَل ضَجَرِهِمْ وَغَضَبِهِمْ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ لُطْفاً مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِهِمْ.
أَمَّا إِذَا دَعَوا لأَنْفُسِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوِ اسْتَجَابَ لَهُمْ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لأَهْلَكَهُمْ. فوضَعَ "استعجالهم" مَوْضِعَ تَعْجيلِهِ لهم بالخَيرِ إِشْعاراً بِسُرْعَةِ إِجابَتِهِ لهمْ في الخيرِ، حَتى كَأَنَّ "اسْتعجالهم" بِهِ تَعْجيلٌ لهم.
قولُهُ: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَيَتْرُكُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَلاَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ فِي الآخِرَةِ، سَادِرِينَ فِي غَيِّهِمْ، مُسْتَمِرِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، مُتَحَيِّرِينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلَى الخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ، حَتَّى يَجِيءَ اليَوْمُ الذِي وَعَدَهُمُ اللهُ بِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى المقصودَ: لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَجِّلُ لِلنَّاسِ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ وَاسْتِعْجَالِهِمْ فِي الشَّرِّ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّتُهُمْ، فِي النَّفْسِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ ـ كَمَا اسْتَعْجَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ بِالعَذَابِ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ ـ كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالخَيْرِ الذِي يَطْلُبُونَهُ بِدُعَائِهِمْ اللهَ، لأعنتهم، ولأهلكهم.
قولُهُ: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} بعدَ أَنْ أخبرنا ربُّنا سبحانَه عن تلطفه بالمؤمنين من عباده وعنايته بهم بتعجيل استجابة دعائهم بالخير لأنفُسهم، وتأخِيرِ استجابتِهِ عندما يكون في الشرِّ، ذكرَ لنا هنا أنه يترك الكافرين به وما يريدون ويكلهم إلى أنفسهم استدراجاً لهم وإمهالاً، ويدعُهم متحيِّرينَ مُتَرَدِّدين. يتخبَّطونَ في ضَلالهم، ولو شاء سبحانه لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ المُحَدَّدِ لَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ الذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ من قبلهم، وَاسْتَعْجَلُوا عَذَابَ رَبِّهِمْ.
فالآيةُ إجمالٌ يُنْبِئُ بِأَنَّ اللهَ تَعالى أَسَّسَ نِظامَ هذا العالَمِ عَلى الرِفْقِ بالمخلوقاتِ، واسْتِبْقاءِ الأَنْواعِ إلى آجالٍ قَضَاها وحكمةٍ اقْتَضاها، وجَعَلَ لهذا البَقاءِ وسائلَ الإمْدادِ بالنِعَمِ والأسبابَ التي بها دَوامُ الحياةِ، فالخَيراتُ المُفاضَةُ عَلى المَخْلوقاتِ في هذا العالَمِ كَثيرةٌ لا حَصْرَ لها ولا عَدَّ، والشُرورُ العارِضَةُ فيها نادِرَةٌ محدودةٌ، ومُعْظَمُها ناتجٌ عَنْ أَسبابٍ مجعولَةٍ في نِظامِ الكونِ وتَصَرُّفاتِ أَهْلِهِ، ومِنْها ما يَأْتي على خِلافِ المعتادِ عِنْدَما يحِلُّ أَجَلُهُ، قالَ تَعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الآية: 49. مِنْ هذِهِ السُورَةِ. وقالَ في سُورَةِ الرّعْدِ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} الآية: 38.
والظاهرُ أَنَّ المُشْرِكينَ كانوا لِغُرِورِهم يَحْسَبُونَ تَصَرُّفاتِ اللهِ كَتَصَرُّفاتِ النَّاسِ، مِنَ انْدِفاعِ سريعٍ إلى الانْتِقامِ عِنْدَ الغَضَبِ، ويَحْسَبُونَ أَنَّ الرُسُلَ قد بُعِثوا لإظهارِ الخوارِقِ من العاداتِ وللتَنْكيلِ بالمعارضينَ المعاندين لهم مِنَ العِبادِ، فكانوا لما كَذَّبوا النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، ولم يَرَوا أَنَّ شَيْئاً مِنَ عَذابٍ حَلَّ بهم، ولا لم يلمسوا انتقاماً نزلَ بهم جرّاءَ كفرهم وعتوِّهم، ازْدادوا صَلَفاً في تَعَنُّتِهم، وضَلالاً في أَمْرِهم، وغُروراً بِباطِلِهم. وقدْ أشارتْ إلى ذلك آياتٌ كثيرةٌ منها قولُهُ تَعالى في سُورَةِ الأَنْفالِ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية: 32. لكنَّ تصرُّفاتِ اللهِ تعالى لا تكونُ إلاَّ بقضائهِ وقدرِهِ، صادرةً عن إرادتِهُ وليستْ انْفِعالاً أَوْ رَدَّةَ فِعْلٍ، ولَوْ أَنَّها كانَتْ كَذلِكَ لَدَمَّرَ هَذا الكَوْنَ بما فيه على مَنْ فيه، ولما اسْتَمَرَّتِ الحياةُ ساعةً واحدةً، قالَ تَعالى في سُورَةِ النَّحْلِ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} الآية: 61. صدقَ اللهُ العظيم. فالحمدُ للهِ على حِلْمِهِ على عبادِهِ وكَرَمِه.
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ} مجيءُ حرْفِ العَطْفِ في صَدرِ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضي في عِلْمِ البَلاغَةِ خُصوصِيَّةً لِعَطْفِها عَلى ما قَبْلَها ومَزيدَ اتِّصالِها بِهِ فتَعَيَّنَ إيضاحُ مُناسَبَةِ مَوْقِعِها. و "لو" تفيدُ امتناعَ التعجيلِ، وهذا الامْتِناعُ نَفْيٌ في المعنى تقديرُهُ: لا يُعَجِّلُ لهُمُ الشَرَّ. ومعنى اتَّصالِهِ بقولِهِ: "فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا" أَنَّ قولَهُ: "لَوْ يُعَجِّل" مُتَضَمِّنٌ مَعْنى نَفْيِ التَعْجيلِ كأَنَّه قيلَ: ولا نُعَجِّل لهمْ بالشَرِّ ولا نَقْضِي إلَيْهم أَجْلَهم.
قولُهُ: {اسْتِعْجالَهُم بالخيرِ} الاسْتِعْجالُ هُنا معْناهُ طَلَبُ التَعْجيلِ، لأنَّ المُشْرِكينَ لمْ يَسْأَلوا تَعْجيلَ الخيرِ، ولا سَأَلوهُ فَحَصَلَ، بَلْ هُوَ بمَعْنى التَعَجُّلِ الكَثيرِ، كَما هو في قولِ سُلْمِيِّ بْنِ رَبيعَةَ الضَبِّيِّ:
وإذا العَذارى بالدُخانِ تَقَنَّعَتْ ...... واسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدورِ فَمَلَّتِ
ونُسِبَ أيضاً لعمرِو بْنِ قميئةَ، وهوَ في الأَصْمَعِيَّاتِ لعِلْبَاءَ بْنُ أَرِيم بْنِ عَوْف مِنْ قَصيدَةٍ نسبت لهم جميعاً، ومَطْلِعُها:
حلَّتْ تُماضرُ غَرْبَةً فاحتلَّتِ .............. فَلجاً وأهلُكِ باللِوَى فالحِلَّةِ
وكأنَّمَا في العينِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ .............. أو سُنبُلاً كُحِلتْ بهِ فانهلَّتِ
والمعنى: تَعَجَّلْتُ، وَهو في هذا الاسْتِعْمالِ مِثْلُهُ في الاسْتِعْمالِ الآخَرِ يَتَعَدَّى إلى مَفْعولٍ، كما في البَيْتِ وكَما في الحديثِ الشريفِ: "فاسْتَعْجَلَ المَوْتَ". وهذه الجملةُ من حديث طويل رواه الأئمّةُ عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الْتَقى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِلى عَسْكَرِهِ، وَمالَ الآخَرُونَ إِلى عَسْكَرِهِمْ، وَفي أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُها بِسَيْفِهِ، فَقالُوا مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَما أَجْزَأَ فُلانٌ؛ فَقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)). فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّما وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ؛ قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَديدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبابَهُ بَيْنَ ثَدْييْهِ ثُمَّ تَحامَلَ عَلى نَفْسِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((وَما ذَاكَ)). قَالَ: الرَّجُلُ الَّذي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ في طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ في الأَرْضِ، وَذُبابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عِنْدَ ذَلِكَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فيما يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيما يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ البُخاريُّ في: 56 كتابِ الجِهادِ: 77 باب لا يَقولُ فُلانٌ شَهيد. وأخرجهُ مسلمٌ به، وغيرُهما مِنَ الأَئِمَّةِ.
وقد انْتَصَبَ هنا "اسْتِعْجَالَهُمْ" على المَفْعولِيَّةِ المُطْلَقَةِ المُفيدَةِ للتَشْبيهِ، والعامِلُ فيه "يُعَجِّلُ"، وفيهِ أَوْجُهٌ أخَر، أَحَدُها: أَنَّهُ مَنْصوبٌ على المصدرِ التَشْبيهيِّ تَقْديرُهُ: استعجالاً مِثْلَ اسْتِعْجالِهم، ثمَّ حُذِفَ الموصوفُ وهو "استعجال" وأُقيمَتْ صِفَتَهُ مُقامَهُ وهيَ "مِثْلَ" فبَقِيَ: ولَوْ يُعَجِّلُ اللهُ مِثْلَ اسْتِعْجالِهم، ثمَّ حَذَفَ المُضافَ "مثلَ" وأَقامَ المُضافَ إليْهِ مُقامَهُ. ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مَنْصوبٌ على الحالِ مِنْ ذَلِكَ المَصْدرِ المُقَدَّرِ. وقالَ الزَمخشريُّ: أَصْلُهُ: ولو يُعَجِّلُ اللهُ للنَّاسِ الشَرَّ تَعْجيلَهُ لهمُ الخيرَ، فوَضَعَ "استعجالهم بالخير" مَوْضِعَ "تعجيلِهِ لهمُ الخيرَ" إشعاراً بِسُرَعَةِ إِجابَتِهِ لهم وإسْعافِه بِطَلَبِهم، كَأَنَّ اسْتِعْجالَهم بالخَيرِ تَعْجيلٌ لهم. وردَّ هذا الشيخُ أبو حيّان فقال: ومدلولُ "عَجَّلَ" غيرُ مدلولِ "استعجل" لأنَّ "عَجَّل" يَدُلُّ على الوُقوعِ، و "استعجل" يدلُّ على طلَبِ التَعْجيلِ، وذلك واقعٌ مِنَ اللهِ، وهذا مُضافٌ إليهم، فلا يَكونُ التَقديرُ على ما قالَهُ الزَمَخْشَرِيُّ، فيُحْتَمَلُ وَجْهَينِ، أَحَدُهما: أَنْ يَكونَ التَقْديرُ: تَعْجيلاً مِثْلَ اسْتِعْجالهم بالخير، فَشَبَّهَ التَعْجيلَ بالاسْتِعْجالِ؛ لأنَّ طَلَبَهم للخيرِ، ووُقوعَ تَعْجيلِهِ مُقَدَّمٌ عِنْدَهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ. والثاني: أَنْ يَكونَ ثَمَّ محْذوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَصْدرُ تَقديرُهُ: ولَوْ يُعَجِّلُ اللهُ للناسِ الشَرَّ إذا اسْتَعْجلوا بِهِ اسْتِعْجالَهم بالخيرِ، لأنهم كانوا يَسْتَعْجِلونَ بالشَرِّ ووُقوعِهِ عَلى سَبيلِ التَهَكُّمِ والتَحدّي، كما كانوا يَسْتَعْجِلونَ بالخيِر. الثالث: أَنَّهُ مَنْصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي: عَلى إِسْقاطِ كَافِ التَشْبيهِ، والتقديرُ: كاسْتِعْجالهم. قالَ أَبو البَقاءِ: وهو بعيدٌ، إذ لو جاز ذلك لجاز قولُكَ: زَيْدٌ غُلامَ عَمْرٍو. أَي: كَغُلامِ عَمْرٍو. وبهذا ضَعَّفَهُ جماعةٌ وليسَ بِتَضْعيفٍ صَحيحٍ، إذْ لَيْسَ في المثالِ الذي ذَكَرَ فعلٌ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ عِنْدَ حَذْفِ الجارِّ، أمَّا الآيةُ ففيها فِعلٌ يَصِحُّ فيهِ ذَلِكَ وهُوَ قولُهُ "يُعَجِّل". و "بالخير" الباءُ لِتَأْكيدِ اللُّّصوقِ، كالتي في قولِهِ تَعالى في سورة المائدة: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} الآية: 6.
وقَدْ جُعِلَ جَوابُ "لو" قولُهُ: "لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ"، وشَأْنُ جَوابِ "لو" أَنْ يَكونَ في حَيِّزِ الامْتِناعِ، أَيْ: وذلكَ ممْتَنِعٌ لأنَّ اللهَ قَدَّرَ لآجالِ انْقِراضِهم مِيقاتاً مُعَيَّناً فقال في سورة الحُجُر: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} الآية: 5.
قوله: {فَنَذَرُهم} معطوفٌ على قولِهِ "وَلَوْ يُعَجِّلُ الله" على مَعنى أَنَّهُ في قُوَّةِ النَفْيِ، وقدْ تقدَّمَ تحقيقُ ذَلك. إلاَّ أَنَّ أَبا البَقَاءِ رَدَّ عَطْفَهُ على "يُعَجِّل: فقال: ولا يجوزُ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على "يُعَجِّل" إذْ لو كانَ كذَلكَ لَدَخَلَ في الامْتِناعِ الذي تَقْتَضيهِ "لو" وليسَ الأمرُ كَذلك، لأنَّ التَعجيلَ لم يَقَعْ، ولأنَّ تَرْكَهم في طُغيانهم وقع. وإنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان مَعطوفاً على "يُعَجِّل" فقط باقياً على معناه، وقد تقدَّمَ أَنَّ الكلامَ صارَ في قُوَّةِ "لا نُعَجِّلُ لهمُ الشَرَّ فَنَذَرُهم" فيكونُ "فَنَذَرُهم" معطوفاً على جملةِ النَفْيِ لا عَلى الفِعْلِ المُمْتَنِعِ وَحْدَهُ حَتى يَلْزَمَ ما قالَ. وقيل: إنَّهُ مَعْطوفٌ على جملةٍ مُقَدَّرَةٍ: ولكنْ نُمْهِلُهُم فَنَذَرُهم. وقيلَ: إنَّها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةً، أَيْ: فنَحْنُ نَذَرُ الذين.
قرأ العامَّةُ: {لَقُضِي إليهم أجَلُهم} بِضَمِّ فاء الفعلِ من "قُضِيَ" وكَسْرِ عينِهِ مَبْنِيّاً للمَفْعولِ، ورفعِ "أجلُهم" على أنَّه نائبٌ عنِ الفاعل، لقيامِه مقامَهُ. وقرأَ ابْنُ عامرٍ "لَقَضَى" بِفَتْحِهما، مَبْنِيّاً للفاعِلِ، وهو اللهُ تعالى. ونصبِ "أجلَهم" على المفعوليَّةِ. وقرَأَ الأعمشُ: "لقَضَيْنا" مُسْنَداً لِضَميرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وهيَ مُؤَيِّدَةٌ لِقِراءَةِ ابْنِ عامرٍ.