فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
(32)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} يقولُ تَعالى ذِكْرُهُ لخلقِهِ: أَيُّها النّاسُ، فَهَذَا الذِي اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهُ فَاعِلُ كُلَّ هذه الأفعالَ، فيَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرضِ، ويَمْلُكُ السَّمْعَ والأَبْصارَ، ويُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ والمَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأَمْرَ هُوَ رَبُّكُمْ وَإلهُكُمْ الحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ، المُحْيِي لِغَيْرِهِ، الذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالعِبَادَةِ.
قولُهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} فأَيُّ شَيْءٍ سِوى الحقِّ إلاَّ الضَلالُ، وهُوَ الجَوْرُ عَنْ قَصْدِ السَبيلِ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ تَجَاوَزَ الحَقَّ وَصَلَ إِلَى الضَّلاَلِ. ورَبُّكُمُ الحَقُّ أيْ: الذِي ثَبَتَتْ رُبُوبِيَّتُهُ بِالحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ ثُبُوتاً لاَ رَيْبَ فِيهِ. أَخرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عَبْدِ العزيزِ قال: قُلْتُ لِمالِكِ ابْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ما تَقولُ في رَجُلٍ أَمْرُهُ يَقِينيّ؟ قال: ليسَ ذَلِكَ مِنَ الحَقِّ. قالَ اللهُ تعالى: "فماذا بعدَ الحَقَِّ إلاَ الضَلالِ". وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ أَشْهَبَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَهادَةِ اللُّعابِ بالشِطْرَنْجِ والنَرْدِ فَقالَ: أَمَّا مَنْ أَدْمَنَها فما أَرى شَهادَتَهم طائلةً. يَقولُ اللهُ تعالى: "فماذا بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضَلالُ". واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهِيَ الهُدَى، إِلَى عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالوُسَطَاءِ وَالأَنْدَادِ وَهِيَ الضَّلاَلُ؟ وأنتم تعلمون أَنَّهُ الرَبُّ الذي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، والمُتَصَرِّفُ في كُلِّ شَيْءٍ؟ وكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ العُدُولَ عَنِ الحَقِّ إِلَى الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ.
وعِبارَةُ القُرآنِ في سَوْقِ هَذِهِ المَعاني تَفُوقُ كُلَّ تَفْسيرٍ بَراعَةً وإيجازاً ووُضوحاً.
قولُهُ تَعالى: {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله من الآية السابقة: {أَفَلا تَتَّقُونَ}، فالفَرْعُ مِنْ جملَةِ المَقولِ. واسْمُ الإشارَةِ "ذا" مبتدأٌ عائدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ للتَنْبيهِ على أَنَّ المُشارَ إِلَيْهِ جَديرٌ بالحُكْمِ الذي سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ مِنْ أَجْلِ الأَوْصافِ المُتَقَدِّمَةِ عَلى اسْمِ الإشارَةِ وهِيَ كَوْنُهُ الرازِقُ، الوَاهِبُ الادْراكِ، الخالِقُ، المُدَبِّرُ، لأنَّ اسْمَ الإشارَةِ قَدْ جمَعَها. واسْمُ الجلالَةِ "الله" عطفُ بَيانٌ لاسْمِ الإشارَةِ، و "رَبُّكُمُ" خبرٌ المبتدأ. و "الْحَقُّ" صِفَةٌ لَهُ.
قولُهُ: {فَمَاذَا بَعْدَ} الفاءُ تَفْريعٌ للاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ عَلى الاسْتِنْتاجِ الواقِعِ بَعْدَ الدَليلِ. يجوزُ أَنْ يَكونَ "ماذا" كلُّهُ اسْماً واحداً لِتَرَكُّبِهِما، وغُلِّبَ الاسْتِفْهامُ على اسْمِ الإِشارة، وصارَ مَعْنى الاسْتِفْهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده ب "إلا"، ويجوزُ أَنْ يَكونَ "ذا" مَوْصولاً بمعنى الذي، والاسْتِفْهامُ أَيْضاً بمعنى النَفْيِ، والتقديرُ: ما الذي بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضَلالُ؟ ويقعُ "ذا" بعدَ "ما" الاستفهامية كثيراً. وَأَحْسَنُ الوُجوهِ فيه أَنَّهُ مزيد بعد الاستفهام لمجرَّدِ التَأكيدِ. والاسْتِفْهامُ هنا إنْكاريٌّ في مَعْنى النَفْيِ، ولِذلِكَ جاءَ بعدَهُ الاسْتِثْناءُ في قولِهِ: "إِلاَّ الضَّلالُ". و "بَعْدَ" هنا في معنى "غير" والمعنى: ما الذي يَكونُ إثرَ انْتِفاءِ الحَقِّ.
قولُهُ: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} الفاءُ: لِتَفْريعِ التَصْريحِ بالتَوْبيخ عَلى الإنْكارِ والإبْطالِ. و "أَنَّى" هنا للاسْتِفْهامِ عَنِ المَكانِ، أَيْ: إلى أَيِّ مَكانٍ تَصْرِفُكم عُقولُكم. وهُوَ مَكانٌ اعْتبارِيٌّ.