ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ رَأَوا العَذَابَ فَآمَنُوا: ذُوقُوا عَذَاباً تَخْلُدُونَ فِيهِ. والذين ظلموا هم القائلون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الآية: 48. والذوق: مستعمل في الإحساس، فهذا عذاب أعظم من العذاب الذي في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} الآية: 50. فإنَّ ذلك عذابُ الدنيا وأما عذابُ الخلد فهو عذابُ الآخِرَةِ، وهذا أعظمُ مِنْ عَذابِ الدُنيا وأشدُّ بما لا يقاسُ.
قولُهٌ: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} ثمَّ قيلَ لهؤلاءِ الظالمين الذين أَصَرُّوا على الكُفْرِ واقتِرافِ الكبائر والموبقات: ذُوقوا عَذابَ الخُلدِ، أَيْ العذابَ الباقي الدائم، فالخُلْدُ والخُلودُ مَصْدَرُ خَلُدَ الشيءُ إذا بَقِيَ على حالةٍ واحدةٍ لا يَتَغَيَّرُ، وهذا اسْتِئْنافٌ بَيانيٌّ لأَنَّ جملَةَ: "ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ" تُثيرُ سُؤالاً في نُفوسِهم عَنْ مِقْدارِ ذَلِكَ العذابِ، فيكونُ الجوابُ بأَنَّهُ على قَدْرِ فظاعَةِ ما كَسِبوهُ مِنَ الأَعمالِ مَعِ إِفادَةِ تَعليلِ تَسْليطِ العَذَابِ عَلَيْهم. وَهُوَ جَزَاءٌ وِفَاقٌ بِمَا كُانوا يَكْفُرونَ، وَيَكْسِبُونَ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ، وفيه تَأْكيدٌ لِتَوْبيخِهم وتَأْنيبِهم بعدَ أَنْ نَزَلَ بهم ما نزلَ مِنْ أَشَدِّ العَذابِ.
ويدُلُّ ظاهرُ الآيةِ على أَنَّ الجَزاءَ يُوجِبُ العَمَلَ فهوَ أَثَرُ العَمَلِ لأنَّ العملَ الصالحَ يُوجِبُ تَنْويرَ القَلْبِ وإشراقَهُ إيجابَ العِلَّةِ مَعْلولها، أما عندَ الفَلاسِفَةِ والمعتزِلَةِ فإنَّ العملَ الصالحَ يُوجِبُ اسْتِحْقاقَ الثَوابِ على اللهِ تَعالى، وأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُنَّةِ فإنَّ الجزاءَ واجبٌ بحكمِ الوَعْدِ المحْضِ، وتَدُلُّ الآيةُ أيضاً على كونِ العَبْدِ مُكْتَسِباً، خلافاً للجَبْرِيَّةِ.
وقولُهُ تَعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} ثُمَّ: حرفُ عَطْفٍ للتراخي الزمانيِّ والرُتَبيِّ، و "قِيلَ" فعلٌ مَاضٌ مبني للمجهول. و " لِلَّذِينَ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ ب "قيل". وجملَةُ "ظَلَمُوا" صِلَةُ المَوْصولِ "الذين"، وهذِهِ الجملةُ عَطْفٌ عَلى ذَلْكَ الفِعْلِ المُقَدَّرِ الناصِبِ لِ {الآن}، من الآيةِ السابقة، بحسبِ قراءةِ العامَّةِ لها، أوْ اسْتِئنافُ إِخْبارٍ عَمَّا يُقال لهم يومَ القِيامَةِ، بحسبِ قراءة طَلْحَةَ بنِ مصرِّفٍ، وقد سبق بيانُ القراءتين.
قولُه: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} ذُوقُوا: فَعْلُ أَمرٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتصاله بواو الجماعة، وهي فاعِله، والألفُ فارقةٌ، و "عَذَابَ" مفعولٌ بِهِ مضافٌ، و " الْخُلْدِ" مضافٌ إليه، والجملةُ في محلَّ رفعِ نائب فاعلٍ ل "قيلَ".
قولُه: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هَلْ: حَرْفُ استِفْهامٍ إنكاريٍّ، و "تُجْزَوْنَ" فِعْلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ ونائبُ فاعِله، والجملةُ في محَلِّ الرَّفْعِ نائبَ فاعِلٍ. وقيل: قولُه: {ذوقوا}، و {هل تُجْزَوْن} كُلُّهُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وقوله: {إلا بما} هو المفعولُ الثاني ل "تُجْزَون"، والأولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ.
و "إِلاَّ" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "بِمَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "تُجْزَوْنَ"، و "ما" موصولٌ اسميٌّ. و "كُنْتُمْ" فعلٌ ناقِصٌ واسمُهُ. وجملةُ "تَكْسِبُونَ" خبرُهُ، وجملةُ "كَانَ" صِلَةٌ ل "ما" أَوْ صِفَةٌ لها، والعائدُ أَوِ الرابِطُ محذوفٌ، تقديرُهُ: تَكْسِبُونَهُ.