آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(91)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} رَدٌّ مِنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى فرعونُ الذي نَدِمَ ولاتَ مندمٍ، وآمَنَ في وقتٍ لا يقبلُ فيه الإيمانُ، لك أنَّ الإيمانَ إنّما ينفعُ صاحبَه حينَ يكونُ ثمرةَ التفكيرِ والتَدَبُّر واستعمالِ العقلِ في النظرِ لما يكونُ متاحاً له من آياتٍ وأدلَّةٍ وبراهين، أمَّا أنْ يؤمن عندَ الإلجاءِ والاطِّرارِ وانشافِ الحقائقِ وانجلاء الأمورِ كما هو حالُ فرعون فَلا فائدةَ في هكذا إيمانِ. للك يقولُ له الحقُّ تعالى: أَتُؤْمِنُ الآنَ حِينَمَا أَدْرَكَكَ الغَرَقُ وأَيْقَنْتَ بِالهَلاَكِ؟ ويَئِسْتَ من الحياةِ وانجلت لك الحقائقُ عِياناً، وَقَدْ جَاءَتْكَ البَيِّنَاتُ مِنْ قَبْلُ، وَرَأَيْتَ مِنْ مُعْجِزَاتِ اللهِ، فَعَصَيْتَ وَكُنْتَ مِنَ المُسْتَكْبِرِينَ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ؟ فَدَعْوَاكَ الإِسْلاَمَ الآنَ لاَ تُقْبَلُ مِنْكَ، وَلاَ تَنْفَعُكَ. وقالتْ فِرْقَةٌ: مَعنى: "ببدنك" بِدِرْعِكَ، وقالتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ بِشَخْصِكَ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: لمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحابِ موسى ـ عليه السلامُ، ودَخَلَ آخِرُ أَصْحابِ فِرْعَوْنَ، أَوْحى اللهُ إلى البَحْرِ أَنْ أَطْبِقْ عَليهم، فخَرَجَتِ اصْبَعُ فِرْعَوْنَ بِلا إِلهَ إلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ. قالَ جبريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَعَرَفْتُ أَنَّ الرَبَّ رَحيمٌ، وخِفْتُ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَحمَةُ فدَمَسْتُه بجَناحي، وقلتُ: "آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ" فلَمَّا خَرَجَ مُوسى وأَصْحابُهُ قال: مَنْ تَخَلَّفَ في المَدائنِ مِنْ قومِ فِرْعَوْنَ، ما غَرِقَ فِرْعَوْنُ ولا أَصْحابُهُ ولكِنَّهم في جَزائِرِ البَحْرِ يَتَصَيَّدونَ، فأَوْحى اللهُ إلى البَحْرِ أَنِ الْفُظْ فِرْعَوْنَ عُرْياناً، فلَفَظَهُ عُرْياناً أَصْلَعَ أَخْنَسَ قَصيراً، فهو قَوْلُهُ تعالى: {فاليومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} لِمَنْ قالَ: إنَّ فِرْعَوْنَ لم يَغْرَقْ، وكانتْ نجاتُهُ عِبْرَةً، لم تَكُنْ نجاةَ عافِيَةٍ، ثمَّ أَوْحَى إلى البَحْرِ أَنِ الْفُظْ ما فيكَ، فَلَفَظَهم عَلى الساحِلِ، وكانَ البَحْرُ لا يَلْفظُ غَريقاً، يَبْقى في بَطْنِهِ حتى يَأْكُلَهُ السَمَكُ، فَلَيْسَ يَقْبَلُ البَحْرُ غَريقاً إلى يومِ القيامَةِ.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ أَبي أُمامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: ((قالَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((قالَ لي جِبْريلُ: ما أَبْغَضْتُ شَيْئاً مِنْ خَلْقِ اللهِ ما أَبْغَضْتُ إِبْليسَ يومَ أُمِرَ بالسُجودِ فَأَبى أَنْ يَسْجُدَ، وما أَبْغَضْتُ شَيْئاً أَشَدَّ بُغْضاً مِنْ فِرْعَونَ، فلَمَّا كانَ يَوْمُ الغَرَقِ خِفْتُ أَنْ يَعْتَصِمَ بِكَلِمَةِ الإخْلاصِ فَيَنْجُو، فأَخَذْتُ قَبْضَةً مِنْ حمأةٍ فَضَرَبْتُ بها في فِيهِ فَوَجَدْتُ اللهَ عَلَيْهِ أَشَدَّ غَضَباً مِني، فَأَمَرَ مِيكائيلَ فَأَنَّبَهُ وقالَ: "آلآنَ وقدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدين".
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الضَحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: اذْكُرُوا اللهَ في الرَّخاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِدَّةِ، فإنَّ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ عَبداً صالحاً ذاكِراً للهِ، فلَمَّا وَقَعَ في بَطْنِ الحُوتِ قالَ اللهُ تعالى: {فلولا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحينَ للَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثونَ} وإنَّ فِرْعَوْنَ كان عَبْداً طاغِياً، ناسِياً لِذِكْرِ اللهِ، فلَمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وأَنَا مِنَ المُسْلِمين} فقيلَ لَهُ: "آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين".
وقد أَشْكَلَ هذا التَعْليلُ لِفِعْلِ جِبْريلَ ـ عليه السلامُ، الوارِدُ هنا وفي الآيةِ السابِقَةِ. عَلى بَعْضِهم فقال الزَمخْشَرِيُّ في (الكَشَّافِ 3/50: فإنَ ذَلِكَ مِنْ زِياداتِ الباهِتينَ للهِ تَعالى وملائكَتِهِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: وفيهِ جَهالَتانِ: إِحْداهما: أَنَّ الإيمانَ يَصِحُّ بالقَلْبِ كإيمانِ الأَخْرَسِ، فحالُ البَحرِ لا يمنعُهُ. والأُخرى: أَنَ مَنْ كَرِهَ إيمانَ الكافِرِ وأَحَبَّ بقاءَهُ على الكُفْرِ فهوَ كافِرٌ لأنَّ الرِضا بالكُفْرِ كُفْرٌ، وقالَ ابْنُ المنيِّرِ في معرض تعبيره عن رضاه بذلك: لقد أَنْكَرَ مُنْكَراً، وغَضِبَ للهِ تَعالى وملائكَتِهِ ـ عَليهِمُ السَلامُ، كما يَجِبُ لهم. والجمهورُ عَلى خلافِ ذلك بالنظرِ لِصِحَّةِ الحديثِ عَنْدَ الأَئِمَّةِ الثِقاتِ كالتِرْمِذِيِّ ـ المُقَدَّمِ على المحَدِّثينَ بَعْدَ مُسْلِمٍ، وكغَيْرِهِ. فإنَ المُرادَ بالرَحْمَةِ الرَحْمَةُ الدُنيَويَةُ، أَيْ النَّجاةُ، وليسَ مِنْ ضَرورَةِ إِدْراكِها صِحَّةُ الإيمانِ، حتى يَلْزَمَ مِنْ كَراهَتِهِ ما لا يُتَصَوَّرُ في شَأْنِ جِبريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنَ الرِضَا بالكُفْرِ إذْ لا اسْتِحالَةَ في تَرَتُّبِ هذِهِ الرَّحمةِ عَلى مجرَّدِ التَفَوُّهِ بِكَلِمَةِ الإيمانِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ في حالَةِ البَأْسِ واليَأْسِ، فيُحْمَلُ دَسُّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ حمَأةَ البحْرِ في فمِ البحرِ على سَدِ بابِ الاحْتِمالِ البَعيدِ لِكَمالِ الغَيْظِ وشِدَّةِ الحَرْدِ، ثمَّ إنَّ قبلَ ذلك وبَعْدَهُ أنَّ الملائكةَ الكرامَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، لا يصدُرُ عنهم إلاَّ ما يأمرُهمُ اللهُ به، ولَعَلَّ الزَمخْشَرِيَّ ومَنْ رأى رأْيَهُ لم يَفْطَنْ لقولِهِ تعالى في حقِّ مَلائكتِهِ: {لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سورة التحريم، الآية: 6. فإنَ الملائكةَ جميعهم لا يتصوَّرُ منهم معصيةٌ، فكيفَ بجبريلَ رئيسهم، ـ عليه وعليهم الصلاةُ والسلامُ.
قولُهُ تَعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} آلآنَ" الهمزةُ للاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ التَوْبِيخِيِّ، و "الآنَ": في محلِّ نَصْبٍ على الظَرْفِيَّةِ الزَمانِيَّةِ، مُتَعَلِقٌ بمحذوفٍ تقديرُهُ: أَتُؤمِنُ الآنَ، والجملةُ المحذوفةُ في محلِّ الرَّفْعِ نائبَ فاعِلٍ لِقَوْلٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: قيلَ لَهُ: الآنَ تُؤْمِنُ، والجملة المحذوفةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "وَقَدْ عَصَيْتَ" الواوُ: حالِيَّةٌ و "قد" حَرْفُ تحقيقٍ، و "عَصَيْتَ" فعْلٌ ماضٍ وتاءُ الفاعِلِ فاعِلُهُ، و "قَبْلُ" في محلِّ النَصْبِ عَلى الظَرْفِيَّةِ الزَمانِيَّةِ مَبْنيٌّ على الضَمِّ، لِقَطْعِهِ عَنِ الإضافَةِ، والظَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِ "عَصَيْتَ"، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في محلِّ النَصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ تُؤْمِنُ المحذوفِ، الذي تَعَلَّقَ بِهِ "آلآنَ". و "وَكُنْتَ" الواوُ: للعطفِ، و "كنتَ" فِعْلٌ ناقِصٌ والتاءُ اسمُهُ. و "مِنَ الْمُفْسِدِينَ" جارٌّ ومجرورٌ خبرُهُ، والجُمْلَةُ في محلِّ نَصْبِ عطفاً على جمْلَةِ "عصيت".
قرأ العامَّةُ: {آلآنَ} بمَدِّ الهَمْزَةِ وسُكونِ اللامِ وهمزِ الثانِيَةِ، وقَرَأَ نافعُ في رِوايَةِ وَرْشٍ: "اَلآن" بمَدِّ الهَمْزَةِ وفَتْحِ اللامِ، وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "الآنَ" بقصْرِ الهَمْزَةِ وفَتْحِ اللامِ وتَخْفيفِ الثانيةِ.
قرأ الجمهورُ: {نُنَجّيكَ} وقرأَ يَعقوبُ "نُنْجِيكَ" بِسُكونِ النُونِ وتخفيفِ الجيم، وقَرَأَ أُبيُّ بْنُ كَعْب ـ رضي اللهُ عنه: "نُنَحّيكَ" بالحاءِ المُشَدَدَةِ، مِنَ التَنْحِيَةِ، وهيَ قِراءَةُ محمَدِ بْنِ السمَيْفَعِ اليَمانيِّ، ويَزيدٍ البريدِيِّ.
وقرأَ العامَّةُ: {ببدنك} وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "بِنِدائِكِ" أَي: بِقَوْلِكَ "آَمَنْتُ .." الخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا يَنْفَعُ.
وقَرَأَ الجُمهورُ: {خَلْفَكَ} أَيْ مَنْ أَتى بَعْدَكَ، وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: "خَلْقَكَ" المعنى يجعلك الله آيةً لَهُ في عبادِهِ.