إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ
(6)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أيْ: إِنَّ فِي تَعَاقُبِ الليْلِ وَالنَّهَارِ، إِذَا ذَهَبَ هَذا جَاءَ ذَاكَ، لاَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَفِي تَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ، يَطُولُ هذا وَيَقْصُرُ ذَاكَ، وفي ذلِكَ تَنْبيهٌ آخَرُ إِجماليٌّ عَلى ما ذُكِرَ، أَيْ في تعاقُبِهِما وكونِ كلٍّ مِنْهُما خِلْفةً للآخرَ بحسَبِ طُلوعِ الشَمْسِ وغُروبِها التابِعَيْنِ لحَركاتِ السَمواتِ والأَرْضِ أَوْ في تَفَاوُتِهِما في أَنْفُسِهما بازديادِ كلٍّ مِنْهُما بانْتِقاصِ الآخَرِ وانْتِقاصِهِ بازْديادِهِ باخْتِلافِ حالِ الشَمْسِ بالنِسْبَةِ إِلَيْنا قُرْباً وبُعْداً بحسَبِ الأَزْمِنَةِ، أَوْ في اخْتِلافِهِما وتَفَاوُتِهِما بحَسَبِ الأَمْكِنَةِ إمَّا في الطُولِ والقِصَرِ فإنَّ البِلادَ القَريبَةَ مِنَ القُطْبِ الشَمَاليِّ أَيَّامُها الصَيْفِيَّةُ أَطْوَلُ ولَياليها الصَيْفِيَّةُ أقصرُ من أيام البلاد البعيدةِ منه ولياليها، وإما في أنفسها فإن كروية الأرضِ تقضي أن يكون بعضُ الأماكن ليلاً وفي مقابله نهاراً.
قولُهُ: {وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وَفِيمَا خَلَقَ اللهُ فِي هَذا الكَوْنِ العَظِيمِ الوَاسِعِ مِنَ الشمسِ والقمرِ والنجومِ والشَجَرِ والدوابِّ والجِبالِ والبِحارِ، وغيرِ ذلك، ولو وَقَفَ الإنْسانُ لحظةً واحِدَةً يَرْقُبُ "وما خَلَقَ اللهُ في السَمواتِ والأَرْضِ" ويَسْتَعْرِضُ هذا الحَشْدَ الذي لا يُحْصَى مِنَ الأَنْواعِ والأَجْناسِ، والهيئاتِ والأَحْوالِ، والأَوْضاعِ والأَشْكالِ. لَوْ وَقَفَ لحْظَةً واحِدَةً لامْتَلأَ وِطابُه وفاضَ بما يُغْنيهِ حياتَهُ كُلَّها، ويَشْغَلُهُ بالتَدَبُّرِ والتَفَكُّرِ والتَأَثُّرِ ما عاشَ.
قولُهُ: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} المُرادُ بالآياتِ هنا الَدَلاَئلُ العَظِيمَةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وسَعَةِ عِلْمِهِ وكَمالِ وقُدرتِه، وَبالِغِ حِكْمَتِهِ. و "يَتَّقُونَ" يَخْشَوْنَ اللهَ، وَيَخَافُونَ سُخْطَهُ وَعِقَابَهُ، فيبتعدون عن كلِّ ما يغضِبُه من مخالفات، ويَسلكونَ السَبيل الذي أمرهم بسلوكه بالطاعات.
وقد خصّهم بالتقوى لأنّها الداعيَ إلى النظرِ والتَدَبُّرِ، فهم الواقفون على أنّ جميعَ المخلوقاتِ آياتٌ دون غيرِهم الذين قال فيهم: {وَكَأَيّن مِن آيَةٍ فِي السماواتِ والأرضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} سورة يوسف، الآية: 105. وهذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون.
أخرج أبو الشيخ عن خليفة العبدي، قالَ: لَوْ أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى لم يُعْبَدْ إلاَّ عَنْ رُؤْيَةٍ ما عَبَدَهُ أَحَدٌ، ولكنَّ المُؤمنين تَفَكَّروا في مجيءِ هذا اللَّيْلِ إذا جاءَ فمَلأَ كُلَّ شَيْءٍ وغَطّى كُلَّ شيْءٍ. وفي مجيءِ سُلْطانِ النَهارِ إذا جاءَ فمَحا سُلْطانَ اللَّيلِ. وفي السَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَمَاءِ والأَرْضِ، وفي النجوم، وفي الشتاء والصيف، فو اللهِ ما زَالَ المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أَيْقَنَتْ قُلوبُهم بِرَبِّهم ـ عَزَّ وَجَلَّ، وكأَنَّما عَبَدوا اللهَ عَنْ رُؤْيَةٍ.
قولُهُ تعالى: {إنَّ في اختلافِ الليلِ والنهارِ} إنَّ حرفٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، والجارُّ والمجرورُ خبرها.
قولُهُ: {ومَا خَلَقَ} ما: اسْمٌ مَوْصولٌ مَعْطوفٌ عَلى قولِهِ: "اخْتِلافِ".
قولُهُ: {في السماوات} هذا الجارُّ: مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ الموصولِ "ما".
قولُهُ: {لآياتٍ} اللامُ للتَوْكِيدِ، و "آيات" اسْمُ "إنَّ"، و "لِقَوم" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "آيات".