وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
(20)
قولُهُ تعالى شأنُه: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يُريدونَ آيةً أُخْرى، أَيْ: معجزةً أخرى غيرَ مُعْجِزَةِ القُرآنِ الكَريم، والقائلونَ هُمْ كُفّارُ مَكَّةَ، الذين قالوا: لَوْلاَ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ آيَةٌ، مِِنْ رَبِّهِ، كَمَا أُعْطِيَ المُرْسَلُونَ مِنْ قَبْلِهِ، كَأَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، أَو يُعيدَ الحياةَ إلى آبائهم، أَوْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ، وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا بَسَاتِينَ وَأَنْهَاراً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاّ اللهُ سبحانَهُ، لتَكونَ شاهدةً له بالنبوَّةِ. وإنَّما طَلَبوا هذه المطالبَ على سَبيلِ العِنادِ والتَعَنُّتِ وليس علىَ سَبيلِ الاسْتِرْشادِ والاهْتداءِ والثبت، ولوا أنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، أُوتيَ كلَّ ما طَلَبوهُ ما آمنوا، بدليلِ آية الإسراءِ والمعراج وما كان فيها من آياتٍ باهراتٍ لم يؤتَ مثلها نبيٌّ منْ قبل، وبدليل آيَةِ انشقاق القمرِ إلى نصفين، رأوا ذلك بأمِّ أعينهم، وهي أيضاً أعظم مما أوتيه جميع الأنبياء ـ عليهِمُ السلامُ، والقرآنُ حافلٌ بالمعجزاتِ والمغيباتِ الأخرى، كانتصار الروم على الفرس التي أخبرَ عنها وعَنْ وقتها. فلقرآنُ هو المعجزةُ الأعظمُ وهو خالدٌ على مرِّ الأيامِ وكَرِّ الدهورِ لو كانَ الحقُّ مرادَهم، قالَ تعالى في سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآية:51. ومَعَ ذلك كلِّه، فقد ظَلُّوا على عِنَادِهم، وتَشَبَثوا بِكُفْرِهم، قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ} الآية: 111.
قولُهُ: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ الغَيْبَ وَالعَوَاقِبَ فِي الأُمُورِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَرَوا مَا سَأَلْتُمْ، فَانْتَظِرُوا حُكْمَ اللهِ فِيَّ وَفِيكُمْ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اسْتِرْشَاداً وَتَثْبِيتاً لأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ عِنَاداُ، فَلَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَا طَلَبُوهُ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ لأَهْلَكَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ مَنْ كَذَّبَ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى لاَ يُرِيدُ إِهْلاَكَهُمْ لأَمْرٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ. وهو أَمْرٌ مِنَ اللهِ تعالى لِرَسُولِهِ ـ صلى الله عليه وسلم، بَأَنْ يَرُدَّ عليهم بما يُفْحِمُهم. وفيها تهديدٌ لهم على تَعَنُّتِهم وجَهْلِهم، وتهوينِهم مِنْ شَأْنِ القُرآنِ الكَريمِ، مَعَ أَنَّهُ أَصْدَقُ مُعْجزَةٍ للرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَعْظَمُها.
قولُهُ تعالى: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حرف تحضيضٍ، وشأنُ التَحضيضِ أَنْ يُواجَهَ بِه المحَضَّضَ لأنَّ التَحضيضَ مِنَ الطَلَبِ، وشأنُ الطلبِ أَنْ يُواجَهَ بِهِ المَطلوبُ، ولِذلِكَ كانَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الإنْزالِ بِضميرِ الغائبِ في هذِه الآيةِ مؤوَّلاً بأَحَدِ وَجهين:
إمَّا أَنْ يَكونَ الْتِفاتاً، وأَصْلُ الكَلامِ: لولا أُنزِلَ عَليكَ وهو مِنْ حِكايَةِ القَوْلِ بالمعنى كَقَوْلِهِ تَعالى في سورة إبراهيم: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية: 31. أيْ: قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالْتِفاتِ لَتَجديدِ نَشاطِ السامِعِ.
وإمَّا أَنْ يَكونَ هذا القَوْلُ صَدَرَ مِنْهم فيما بَيْنَهم لِيُبَيَّنِ بعضُهم لِبَعْضٍ شُبْهَةً على انْتِفاءِ رِسالَةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، أَوْ صَدَرَ منهم للمُسلمين طمعاً في أَنْ يَرُدّوهم إلى الكُفْرِ. و "من ربه" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "آية".
قوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ} اللامُ للاخْتِصاصِ العِلْمِيِّ دونَ التَكْوينيِّ فإنَّ الغَيْبَ والشهادةَ في ذلك الاخْتِصاصِ سِيَّانِ. وقد جاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره. واللامُ في قولِهِ: "لله" للمُلْكِ، أَيْ: الأُمورُ المُغَيَّبَةُ لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلاَّ اللهُ. وجاءَ الكلامُ بِصيغَةِ القَصْرِ "إنَّما" للرَدِّ عليهم في اعْتِقادِهم أَنَ في مُكْنَةِ الرَسُولِ الحقِّ أَنْ يَأْتيَ بما يَسْأَلُهُ قومُهُ مِنَ الخَوارِقِ، فجَعَلوا عَدَمَ وُقوعِ مُقْتَرَحِهم علامةً على أَنَّهُ ليسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللهِ، فَلِذلكَ رَدَّ عَلَيْهِم بِصِيغَةِ القَصْرِ الدالَّةِ عَلى أَنَّ الرَّسولَ ليسَ لَهُ تَصَرَّفٌ في إيقاعِ ما سَأَلوهُ. وجملةُ "فقل" مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تَفْريعٌ على قولِهِ: {إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ} أيْ: ليسَ دَأْبي ودَأْبُكم إلاَّ انْتِظارُ ما يَأْتي بِهِ اللهُ. وجملة "فانتظروا" مُسْتَأْنَفَةٌ، وكذلك جملةُ التَأكيد "إني من المنتظرين". والظرف "معكم" مُتَعَلِّقٌ بالمُنْتَظرينَ، والجار في "من المنتظرين" مُتَعَلِّقٌ بخبر "إنّ".