وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ
(60)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ابتداءُ حطابٍ للناس جميعاً، للتَعْريضِ بالمُشْرِكينَ لِيَسْتَفيقوا مِنْ غَفْلَتِهم ويُحاسِبُوا أَنْفُُسَهم. وأَيُّ شَيءٍ يَكُونُ ظَنُّهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، الذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ؟ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِلا عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَتَعَمُّدِهِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِرُبُوبِيَّتِهِ؟ وفيه بَيانُ هَوْلِ ما سَيَلْقَوْنَهُ غيرُ داخِلٍ تحتَ القوْلِ المَأْمورِ بِهِ.
قولُه: {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ أَرْزَاقٍ، وَكُلِّ مَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الإبَاحَةَ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ عَلى مَا كَانَ ضَارّاً بِهِمْ، وَحَصْرَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالأَفْضَالِ. وَقد جَاءَ فِيما أَخْرَجَ البُخارِيُّ والطَبرانيُّ عَنْ زُهيرِ بْنِ أَبي عَلْقَمَةَ مَرْفُوعًا: ((إذا آتاك اللهُ مالاً فليُرَ عَلَيْكَ فإنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرى أَثَرَهُ على عَبْدِهِ حَسَنًا، ولا يُحِبُّ البُؤْسَ ولا التَبَاؤُسَ)). وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدٌ، والنَّسائيُّ، عَنْ أَبي الأَحْوَصِ وهو عوفُ بْنُ مالِكِ بْنِ نَضلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وأَنَا رَثُّ الهَيْئَةِ، فقال: ((هلْ لّكَ مالٌ))؟ قلتُ: نعم، قال: ((مِنْ أَيِّ المال))؟ قلتُ: مِنْ كُلِّ المالِ، مِنَ الإبِلِ والرَّقيقِ والخيلِ والغَنَمِ، فَقالَ: ((إِذَا آتَاك اللهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ)). ثم قال: ((هلْ تَنْتُجُ إِبِلُكَ صِحاحاً آذانها، فتَعْمَدُ إلى مُوسى فَتَقْطَعُ آذانَها فتَقولُ: هذه بحر. وتَشُقُّ جُلودَها وتَقولُ؛ هذِهِ صَرْمٌ وتُحَرِّمُها عَلَيْكَ وعلى أَهْلِكَ. قالَ: نعم. قال: فإنَّ ما آتاكَ اللهُ لَكَ حِلٌّ. ساعِدُ اللهِ أَشَدُّ مِنْ ساعِدِكَ. ومُوسَى اللهِ أَحَدُّ مِنْ مُوساكَ)). وأَخرجَ التِرْمِذِيُّ والحاكِمُ مَنْ حديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ((إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يَرى أَثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ)).
وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الصَّبَّاحِ، فِي قَوْلِ اللهِ: "إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ" قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى بِأَهْلِ وِلايَةِ اللهِ، فَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ثَلاثَ أَصْنَافٍ، قَالَ: فَيُؤْتَى بِرَجُلٍ مِنَ الصَّفِّ الأَوَّلِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ خَلَقْتَ الْجَنَّةَ وَأَشْجَارَهَا، وَثِمَارَهَا، وَأَنْهَارَهَا، وَحُورَهَا، وَنَعِيمَهَا، وَمَا أَعْدَدْتَ لأَهْلِ طَاعَتِكَ فِيهَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي شَوْقًا إِلَيْهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: عَبْدِي إِنَّمَا عَمِلْتَ للْجَنَّةِ هَذِهِ الْجِنَّةُ، فَادْخُلْهَا، وَمِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أُعْتِقُكَ مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ مِنَ الصَّفِّ الثَّانِي، قَالَ: عَبْدِي لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ خَلَقْتَ نَارًا أَغْلالَهَا، وَسَعِيرَهَا، وَسَمُومَهَا، وَيَحْمُومَهَا، وَمَا أَعْدَدْتَ لأَهْلِ عَذَابِكَ فِيهَا، وَلأَهْلِ مَعْصِيَتِكَ فِيهَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي خَوْفًا مِنْهَا، فَيَقُولُ: عَبْدِي إِنَّمَا عَمِلْتَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي قَدْ أَعْتقتُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَدْخَلْتُكَ جَنَّتِي، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ يُؤْتَى بِرَجُلٍ مِنَ الصَّفِّ الثَّالِثِ، فَيَقُولُ: عَبْدِي لِمَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ حُبًّا لَكَ وَشَوْقًا إِلَيْكَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ أَسْهَرْتُ لِيَلِيَ وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي شَوْقًا إِلَيْكَ وَحُبًا لَكَ، فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي إِنَّمَا عَمِلْتَ حُبًّا لِي وَشَوْقًا إِلَيَّ، فَيَتَجَلَّى لَهُ الرَّبُّ، فَيَقُولُ: هَا أَنَا ذَا انْظُرْ إِلَيَّ، ثُمَّ يَقُولُ: مِنْ فَضْلِي عَلَيْكَ أَنْ أُعْتِقَكَ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلَكَ جَنَّتِي، وَأُزِيرَكَ مَلائِكَتِي، وَأُسَلِّمَ عَلَيْكَ بِنَفْسِي، فَيَدْخُلُ هُوَ وَمِنْ مَعَهُ الْجَنَّةَ".
قولُهُ تَعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الواو: اسْتِئْنافيَّةٌ، "ما" اسْمُ اسْتِفْهامٍ إنْكارِيٍّ في محلِ الرَفْعِ مُبْتَدأٌ. و "ظَنُّ" خبرُهُ، و "الَّذِينَ" مُضافٌ إليْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "يَفْتَرُونَ" فعلٌ وفاعِلٌ، و "عَلَى اللهِ" مُتَعَلِّقٌ ب "يفترون"، و "الْكَذِبَ" مَفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ، و "يَوْمَ" ظَرْفُ زمانٍ مُضافٌ منصوبٌ بِنفس الظنِّ، و "القيامَةِ" مضافٌ إِلَيْهِ مَتْعَلِّقٌ ب "ظَنُّ" وهومَصدَرٌ مُضافٌ لِفاعِلِهِ، ومفعولا الظَنِّ محذوفانِ، والمعنى: وأَيُّ شَيْءٍ يَظُنُّ الذينَ يَفْترون يومَ القيامة أَني فاعلٌ بهم أَأُنجيهم مِنَ العذابِ أَمْ أَنْتَقِمُ مِنْهم؟
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} إِنَّ: ناصبٌ ناسخ، و "اللهَ" اسمُها، و "لَذُو فَضْلٍ" خبرُهُا واللامُ حَرْفُ ابْتِداءِ. و "عَلَى النَّاسِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "فَضْلٍ" وجملةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ والواو: عاطفةٌ "لكن" ناصبٌ ناسخٌ للاستدراك، و "أَكْثرُهم" اسمُها. وجملة "لا يَشْكُرُونَ" خبرُهُا، وجمْلةُ "لكن" مَعْطُوفةٌ على جملَةِ "إِنَّ".
قراُ العامَّةُ: {وما ظنُّ الذين} بالرفعِ، وقرأَ عيسى بْنُ عُمَرَ: "وما ظَنَّ الذين" بالنَّصبِ فجَعَلَه فعلاً ماضِياً والموصولُ فاعلُه، و "ما" عَلى هذِهِ القراءةِ اسْتِفْهامِيَّةٌ أَيْضاً في محلِّ نَصْبٍ على المَصْدَرِ، وقُدّمَتْ لأَنَّ الاسْتِفْهامَ لَهُ صَدْرُ الكَلامِ، والتقديرُ: أَيَّ ظَنٍّ ظَنَّ المُفْتَرونَ، و قَدْ تَنُوبُ "ما" الاسْتِفْهامِيَّةُ عن المصدر، ومِنْ ذلكَ قولُ الشاعرِ عَبْدُ مَنافٍ بْنُ رِبْعٍ الهُذَليِّ:
ماذا يَغيرُ ابْنَتَيْ رِبْعٍ عَويلُهُما .......... لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسى لِمَن رَقَدا
وتقولُ: ما تَضْرِبُ زَيْداً؟، تُريدُ: أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبُهُ؟.