فيضُ العليم .... سورة يونس، الآية: 44
إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(44)
قولُهُ ـ تباركتْ أَسماؤه: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، أَنْ يُنْقِصَهُمْ شَيْئاً مِنَ الأَسْبَابِ التِي يَهْتَدُونَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَى مَا فِيه خَيْرُهُمْ، مِنْ إِدْرَاكٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى الحَقِّ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَنَصْبِ الأَدْلَّةِ التِي تُوصِلُهُمْ إِلَى سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وفي هذا إِشارةٌ إلى أَنَّ ما حُكِيَ من قبلُ عنهم كعدَمِ اهْتِدائِهم إلى طريقِ الحَقِّ، وتَعَطُّلِ مَشاعِرِهم مِنَ الإدْراكِ، لَيْسَ لأَمْرٍ مُسْتَنِدٍ إلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ خَلْقِهِمُ مؤثرٍ في المشاعرِ ونحوِ ذلك، بَلْ إنَّما هُوَ مِنْ قِبَلِهم أَيْ لا يَنْقُصُهم "شَيْئاً" مما نِيطَ بِهِ مَصالحُهم الدِينِيَّةُ والدُنْيَوِيَّةُ وكمالاتُهم الأَوْلَوِيَّةُ والأُخْرَوِيَّةُ مِنْ مَبادئِ إِدْراكِهم، وأَسبابِ علومِهم مِنَ المَشاعِرِ الظاهِرَةِ والباطِنَةِ والإرْشادِ إلى الحَقِّ بإرسالِ الرُسُلِ وإِنْزالِ الكُتُبِ بَلْ يُوفِّيهم ذَلِكَ مِنْ غيرِ إِخْلالٍ بِشَيْءٍ أَصْلاً، فقد أَخْرَجَ مُسْلمٌ مِنْ حديثِ أَبي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فيما يَرويهِ عَنْ رَبِّه مِنَ الحَديثِ القُدْسيِّ، أنَّه سبحانَهُ يَقولُ اللهُ تعالى: ((يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ. يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئاً. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئاً. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ. يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ)). وأَخرْجَهُ أُحمَدُ عنه، وأَخْرَجَهُ أَبو الشَيْخِ عَنْ مُكْحولٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وظُلْمُ النَّاسِ لأَنْفُسِهم إنَّما يكونُ بتكَسُّبِهم. فإنَّ النَّاسَ يَتَنَكَّبُونَ عَنْ طَرِيقِ الهِدَايَةِ وَالحَقِّ، وَيُصِرُّونَ عَلَى الكُفْرِ بِاللهِ، وَالإِشْرَاكِ بِهِ، فَيَظْلِمُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، لأَنَّ كُفْرَهُمْ سَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الدَّلاَئِلَ وَالحُجَجَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ يَكُونُ قَدْ ظَلَمَ النَّاسَ شَيْئاً. أَيْ: لَكنَّهم بِعَدَمِ اسْتِعْمالِ مَشاعِرِهم فيما خُلِقَتْ لَهُ وإعْراضِهم عَنْ قَبولِ دَعْوةِ الحَقِّ وتَكْذيبِهم للرُسُلِ والكُتُبِ إنما يَظْلِمُونَ أَنفُسَهُمْ ويُنْقِصون بمبادئ كمالِهم، ويُخِلّون ذَرائعِ اهتدائِهم.
قولُهُ تَعالى: {لاَ يَظْلِمُ الناسَ شَيْئاً} يجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ "شيئاً" على المصدر، أي: شيئاً من الظلم قليلاً ولا كثيراً، وأَنْ يَنْتَصِبَ مفعولاً ثانياً ل "يَظْلم" بمعنى: لا يُنْقِص الناسَ شيئاً من أعمالهم.
قولُه: {ولكنَّ الناسَ أنفسهم يظلمون} عُرْفُ "لكنَّ" إذا كان قبلَها واوٌ أَنْ تُثَقَّلَ، وإذا عَرِيَتْ منه أَنْ تُخَفَّفَ، وقدْ تَنْخَرِمُ هذه القاعدةُ. وقالَ الكوفيُّونَ: قدْ يَدْخُلُ اللامُ في خبرِ "لكنَّ" المُشَدَّدَةِ عَلى حَدِّ دُخولها في :أنَّ" ومَنْع البَصْريّونَ ذلك. وقال: "أنفُسَهم" لِقَصْرِ الظُلْمِ عَلَى أَنْفُسِهم، وهو إمَّا تَأكيدٌ ل "النَّاسَ" فيكونُ بِمَنْزِلَةِ ضَميرِ الفَصْلِ في قولِهِ تعالى في سورة الزُخْرُف: {وَمَا ظَلَمْناهُم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} الآية: 76. في قَصْرِ الظَالِمِيَّةِ عَلَيْهم، وإمَّا مَفْعُولٌ لِ "يَظْلِمونَ" حَسْبَما وَقَعَ سائرَ المَواقِعِ، وتقديمُهُ عَلَيْهِ لمجرَّدِ الاهْتِمامِ بِهِ مَعَ مُراعاةِ الفاصِلَةِ مِنْ غيرِ قَصْدٍ إلى قَصْرِ المَظْلُومِيَّةِ عَلَيْهم عَلى رَأْيِ مَنْ لا يَرى التَقْديمَ مُوجِباً للقَصْرِ فيكونُ كَما في قولِهِ تَعالى في سورةِ هود: {وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} الآية: 101. مِنْ غَيرِ قَصْرٍ للظُلْمِ لا عَلى الفاعِلِ ولا عَلى المَفْعولِ، وأَمَّا عَلى رَأْيِ مَنْ يَراهُ مُوجِباً لَهُ فَلَعَلَّ إيثارَ قَصْرِها دُونَ قَصْرِ الظالِمِيَّةِ عَلَيْهم للمُبالَغَةِ في بَيانِ بُطْلانِ أَفْعَالِهم وسَخَافَةِ عُقُولِِهم.
قرأ العامَّةُ: {ولكنَّ الناسَ} بتشديد نونِ "لكنّ" ونَصْبِ "الناسِ"، وقرأَ الأَخَوانِ بِتَسكينِ "لكنْ"، فالتقى ساكنان فحُرِّكَتْ بالكَسْرِ لالْتِقاءِ الساكِنَينِ وَصْلاً ورَفَعا "الناسُ"، وقد تَقَدَّمَ تَوجيهُ ذَلِكَ في سورة البقرة.