وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(48)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الخِطابُ لمنْ هُوَ أَهْلٌ لخطابِ اللهِ تعالى، وهوَ رَسُولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، وللمُؤمنين الذين يَتْلونَ عَلَى المُشركينَ الآياتِ المُتَضَمِّنَةِ الوعيدَ بعذابهم: "وَيَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ" اسْتِعْجالاً منهم لما وُعِدُوا بِهِ مِنْ عذابٍ اسْتِهْزاءً بِهِ وإنْكاراً لَهُ وَإمْعاناً مِنْ مشْرِكي قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِاليَوْمِ الآخِرِ، إنْ كانَ هو المسؤولَ عَنْهُ، فَيَسْتَعْجِلُونَ بِهِ سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ، قُائلين: مَتَى يَكُونُ هَذا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ العَذَابِ، إِنْ كُنْتَم يِا مُحَمَّدُ أنتَ وَأَصْحَابُكَ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ حَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ؟ كما جاءَ على لسان شاعرهم أبي بَكْرِ بْنِ الأَسْوَدِ الكِنانيِّ، متهكِّماً:
يُخَبِّرُنا الرَّسولُ بِأَنْ سَنَحْيا ................. وكيفَ حياةُ أَصْداءِ وهامِ
وأَخْرَج ابْنُ أبي حاتمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَنَا يَوْمًا يُوشِكُ أَنْ نَسْتَرِيحَ فِيهِ وَنَنَعَمُ فِيهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" أَيْ: تَكْذِيبًا".
وقد يكونُ سؤالُهم مُتَوَجِّهاً إلى ما هُدِّدوا به مِنْ عَذابِ الدنيا، وهذا ما يُرْشِدُ إليْهِ الجوابُ لا طَلَباً لِتَعْيين وَقْتِ مجيئِهِ.
وعلى كلِّ حالٍ فالسُؤالُ عَنْ وَقْتِ العذابِ قَبْلَ تعينِِِهِ، مِنَ الحَمَقِ والجهلِ ومما لا فائِدَةَ لهم فيهِ، كما قالَ تعالى في سورة الشورى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} الآية: 18. لأنَّ العاقلَ يستأخرُ وقتَ عذابه، ويطلُب الخلاصَ مِنْهُ لا يستعجلُه.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ إنْ كُنْتُم صادقين في أَنَّهُ واقِعٌ فَعَيِّنُوا لَنا وَقْتَهُ، تعبيراً عَنْ عَدَمِ اكْتِراثِهِم بِهِ، وَهُمْ يُريدون أَنَّنا لا نُصَدِّقُكَ حتى نَرى ما وَعَدْتَنا به، كنايَةً عَنْ اعْتِقادِهم عَدَمَ حُلولِهِ، وأَنَّهم لا يُصَدِّقونَ بِهِ. والوَعْدُ المَذْكُورُ هُنا ما هُدِّدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ الدُنيا. وهَذا المَحْمَلُ هُوَ المُناسِبُ لِما أَجَابهم بِهِ بَعْدَ ذلك بِقَوْلِهِ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}. وقد يكونُ المتوجَّهُ إليْهِ بالخِطابِ منهم رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمِ، وحدَهُ، فيكونُ ضميرُ الجماعةِ في "كنتم" للتَعْظِيم تهكُّماً منهم به ـ عليه الصلاةُ والسلامُ.
وقدْ أَرَى اللهُ تَعالى رسولَهُ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بَعْضَ الذي تَوَعَّدَ بِهِ قُرَيْشاً كالقَحْطِ سَبْعَ سِنينَ بِدُعائهِ عَلَيْهم، وكالذي أَصابهم يَومَ بَدْرٍ مِنَ خِزْيِّ ومَهانَةٍ وذُلٍّ، فقُتِلَ أبطالُهم وصناديدُهم كأبي جهلٍ وعتبة بْنِ ربيعة وأخيه وولَدِه، وأَسْرِ كبراؤهم، وانْكَسَرَت شَوكَتُهم، وسَقَطتْ هَيْبَتِهم، ونزلتْ مكانتُهم في أَعيُنِ العَرَبِ.
قولُهُ تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعدُ} الواوُ للعَطْفِ و "يقولون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعهِ ثبوتُ النونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والفاعلُ الواوُ الدالَّةُ على الجماعة، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} الآيةِ: 46. منْ هذه السورة. وقيلَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وقد حُكِيَ قولُهُم بِصيغَةِ المُضارِعِ اسْتِحْضاراً للحالَةِ، كَما هو قولُهُ تعالى في سُورَةِ هُودٍ ـ عليه السلامُ: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} الآية: 38. للدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ ذلك مِنْهُمْ. و "مَتَى" اسْمُ اسْتِفْهامٍ، في محلِّ النَّصْبِ على الظَرْفِيَّةِ الزَمانِيَّةِ، وهو خبرٌ مُقَدَّمٌ. و "هَذَا" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، و "الوعدُ" بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له، وجملة "متى هذه الوعدُ" في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ.
قولُه: {إِنْ كُنتُمْ صادقين} إِنْ: حرْفُ شَرْطٍ "كُنْتُمْ" كانَ الناسخةُ واسمُها، و "صَادِقِينَ" خبرها، وجملةُ "كنتم صادقين" في محلِّ جزمِ فِعْلِ الشَرْطِ، وجوابُ الشرط محذوفٌ اعتماداً على ما تقدَّمَ، أَيْ: إنْ كُنْتُم صادِقينَ في أَنَّهُ يَأْتينا فَلْيَأْتِنا عَجَلَةٍ، حَسْبَما حُذف في مثلِ قولِهِ تَعالى في سورة الأعراف: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} الآية: 70. فإنَّ الاسْتِعْجالَ في قوَّةِ الأَمْرِ بالإتْيانِ عَجَلَةً كأَنَّهُ قيلَ: فَلْيَأْتِنا عَجَلةً.