َكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ
(29)
قولُهُ ـ تعالى ذِكرُهُ: {فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ: إنَّ أولئكَ الشُرَكاءَ التي كانوا يَعبدونَهم مِنْ دونِ اللهِ يَقُولُون لمنْ أَشْرَكَ بهم اللهَ تعالى فعبدَوها: حَسْبُنا اللهُ شاهدًا بَيْنَنا وبَيْنَكم، أَيُّها المُشْرِكون، فإنَّه قدْ عُلِمَ أَنّا ما عَلِمْنا ما تَقولونَ، فهم يُصِرُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَلاَ يَعْلَمُونَ بِهَا، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا وَنَحْنُ لاَ نَدْرِي بِكُمْ، وَاللهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وهذا تَأْكِيدٌ للتَبَرِّي والإِنْكارِ، ورُجوعٌ إلى الشَهَادَةِ الحَقِّ في ذَلِكَ.
قولُهُ: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} فإِنَّنا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا، وَلاَ أَمَرْنَاكُمْ بِهَا، وَلاَ رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ. وَفِي هَذا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ. ومِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ غَفْلَتها تلك كونُها جماداتٍ لا حِسَّ لها ولا شُعور. وقيل: لما في ذلك الموقفِ مِنَ الدَهْشَةِ والحِيرَةِ فَذلِكَ الكَذِبُ يَجْري مجرى كَذِبِ الصِبْيانِ والمجانين والمدهوشين. وقيل: إنهم ما أَقاموا لأعمال الكُفارِ وَزْناً فجَعَلوها كالعَدَمِ. وقيل: المرادُ أَنهم عَبَدوا الشياطينَ حيثُ أَمَروهم باتِّخاذِ الأَنْدادِ.
قولُهُ تعالى: {فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أَيْ: اكْتَفوا باللهِ و "اللهُ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ على الفاعليَّةِ ب "كَفَى" بِتَقديرِ زِيادَةِ الخافِضِ، وفائدةُ زيادتِهِ تَبْيينُ مَعْنى الأَمْرِ في لَفْظِ الخَبَرِ، فالباء تَدُلُّ على المُرادِ مِنْ ذَلِكَ، وهذه الجملةُ مُؤَكَّدَةٌ بالقَسَمِ لِيُثْبِتُوا بَراءَتَهم ممَّا أُلْصِقَ بهم. وقد عُطِفَتْ حملةُ القَسَمِ هذه بالفاءِ للدَلالَةِ عَلى أَنَّ القَسَمَ مُتَفَرِّعٌ عَلى الكلامِ المُتَقَدِّمِ لأنَّ إخبارَهم بِنَفْيِ أَنْ يَكونوا يَعْبُدونهم خَبَرٌ غَريبٌ مُخالِفٌ لما هُوَ مُشاهَدٌ فناسَبَ أَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ ما يُحَقِّقُهُ ويُبَيِّنُهُ مَعَ تَأْكيدِ ذلك بالقَسَمِ. والإتيانُ بِفاءِ التَفْريعِ عِنْدَ تَعْقيبِ الكلامِ بِجُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ مِنْ فَصيحِ الاسْتِعْمالِ، ومِنْ خَصائِصِهِ أَنَّه إذا عُطِفَ بِفاءِ التَفْريعِ كانَ مُؤَكِّداً لما قَبْلَهُ بِطَريقِ تَفْريعِ القَسَمِ عَلَيْهِ، ومُؤَكِّداً لما بَعْدَهُ بِطَريقِ جَوابِ القَسَمِ بِهِ. وزيادةُ الباءِ للتَأْكيدِ. و "شهيداً" نَصْبٌ عَلى التَمْييزِ، وقيلَ عَلى الحال. والظرفُ "بيننا" مُتَعَلِّقٌ ب "شهيدًا".
قولُهُ: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} هَذِهِ الجُمْلَةُ جَوابٌ للقَسَمِ. و "إنْ" مُخَفَّفَةٌ مِنْ "إنّ". واسْمُها ضَميرُ شَأْنٍ مُلْتَزَمُ الحَذْفِ. وجملةُ: "كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ" مُفَسِّرَةٌ لِضَميرِ الشَأْنِ. واللامُ فارِقَةٌ بَينَ "إنْ" المؤكِّدَةِ المُخَفَّفَةِ، و "إنِ" النافيَةِ التي لا تلحقُها اللام. وتقديمُ قولِهِ: "عَنْ عِبَادَتِكُمْ" على عامِلِهِ "غافلين" للاهْتِمامِ وللرِعايَةِ عَلى الفاصِلَةِ. و "غافلين" خبرُ "كان". و "إنْ" هذِهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ هيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقيلَةِ مُوجِبَةٌ، حَرْف ابتداءٍ ولَزِمَتْها اللامُ فَرْقاً بَيْنَها وبَينَ "إنْ" النافية، وقالَ الفَرَّاءُ: "إنْ" بمعنى "ما" واللامُ بمعنى إلاَّ.