لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} تَفْسيراً لِتَوَلِّيهِ إياهم سبحانُهُ. فهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ. وقد تَظَاهَرَتِ الأَحاديثُ الشريفةُ عنْ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أنَّ بُشْرى الدُنيا هي الرُؤْيا الصالحةُ يَراها المؤمنُ أَوْ تُرى لَهُ: ((إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ)). فقد أَخرَجَ البُخارِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرِةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: سمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقولُ: ((لم يَبْقَ مِنَ النُبُوَّةِ إلاَّ المُبَشِّراتُ)) قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قال: ((الرُؤْيا الصالحةُ)). وأخْرَجَ أَحمدُ، والتِرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَةَ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقيُّ، والطَبَرانيُّ، والدارِمِيُّ، والطَيَالِسِيُّ وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحَكيمُ التِرْمِذِيُّ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وأبو الشيخ، والهيثمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشامِيُّ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَنْ قولِهِ تعالى: "لهُمُ البُشْرى في الحياةِ الدُنيا" قال: ((هِيَ الرُؤْيا الصالحَةُ يَراها المؤمِنُ أَوْ تُرى لَهُ)). وأَخْرَجَ أحمدُ والتِرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، والحَكيمُ التِرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ، وسَعيدُ بْنُ مَنْصورٍ، وأبو الشيخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عَطاء بْنِ يَسار، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، قال: سَأَلْتُ أَبَا الدَرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قولِهِ تَعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" فقالَ: ما سَأَلَني عَنْها أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فقال: ((ما سَأَلَني عَنْها أَحَدٌ غيركَ مُنْذُ أُنْزِلَتْ. هِيَ الرُؤيا الصالحةُ يَراها المُسْلِمُ أَوْ تُرى لَهُ، فهِيَ بُشْراهُ في الحياةِ الدُنْيا، وبُشْراهُ في الآخِرَةِ الجَنَّةُ)). وأخرج أَحمدُ أيضاً، والبَيْهَقيُّ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عبدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في قولِهِ تعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" قال: ((الرُؤْيا الصالحةُ يُبَشَّرُ بها المُؤمِنُ، وهي جِزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأَربعينَ جُزْءً مِنَ النُبُوَّةِ، فَمَنْ رَأَى ذلك فلْيُخْبِرْ بها وادّاً، ومَنْ رَأَى سِوَى ذَلِكَ فإنَّما هوَ مِنَ الشَيْطانِ لِيُحْزِنُهُ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسارِهِ ثلاثاً ولْيِسْكُتْ ولا يخبرْ بها أَحَداً)). وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وأَبو الشَيْخِ وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُريْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في قولِهِ تعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" قال: ((هيَ في الدُنْيا الرُؤْيا الصالحةُ يَراها العَبْدُ الصالحُ أَوْ تُرى لَهُ، وفي الآخِرَةِ الجَنَّةِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، والبَزَّارُ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والخَطيبُ في المُتَّفِقِ والمُفْتَرِقِ، عنْ جابرٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبابٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، عن رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مثله. والرواياتُ كثيرةٌ في هذا الموضوعِ، منها ما هو موقوفٌ على بعض الصحابة ـ رضوانُ اللهِ عليهم، ومنها ما هو مرفوعٌ، وكُلُّها مجمعٌ على أَنَّ البشارةَ في الدنيا هي الرؤيةُ الحسنة.
ويَصِحُّ أَنْ تَكونَ بُشْرى الدُنيا في القرآنِ الكريمِ مِنَ الآياتِ المُبَشِّراتِ، ويُقوى ذَلِكَ قولُهُ في هذِهِ الآيَةِ: "لا تبديل لكلمات الله" وإنْ كانَ ما تَقَدَّمَ من أحاديث يعارضُ ذَلِكَ، إلاَّ إنْ قُلْنا إِنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَعْطى مِثالاً مِنَ البُشْرى وهيَ تَعُمُّ جميعَ الناسِ.
قولُهُ: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} كَلِمَاتِ اللهِ: الأقوالُ التي أَوْحى بها إلى رَسُولهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، في الوَعْدِ المُشارِ إِليهِ. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يَعْنِي، قَوْلَهُ: "لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ" قَالَ: لا تَبْدِيلَ لِشَيْءٍ قَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ. أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ. ويؤخَذُ من عمومِ "كَلِمَاتِ اللهِ" وعمومِ نفيِ التبديلِ أنَّ كلَّ ما هو تبديلٌ مَنفِيٌّ من أَصْلِه. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُه، وَلاَ يُغَيَّرُه وَلاَ يُخْلَفُه، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ. يُريدُ لا خُلْفَ لمواعِيدِهِ ولا رَدَّ في أَمْرِهِ ـ تَبَاركَ وتعالى. وقدْ أَخَذَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، على نحوٍ غيرِ هذا، وجَعَلَ التَبْديلَ المَنْفِيَّ في الأَلْفاظِ وذلكَ أَنَّهُ رُوَيَ: أَنَّ الحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ خَطَبَ فَأَطالَ خُطْبَتَهُ حَتى قال: إنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُبَيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قد بَدَّلَ كِتابَ اللهِ، فقالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّكَ لا تُطيقُ ذَلِكَ أَنْتَ ولا ابْنَ الزُبيرِ "لا تَبْديلَ لِكَلِماتِ اللهِ"، فقالَ لَهُ الحَجَّاجُ: لَقَدْ أَعْطَيْتَ عِلْماً. فلمّا انْصَرَفَ إِلَيْهِ في خاصَّتِهِ سَكَتَ عَنْهُ. وقدْ رُوِيَ هذا النَظَرُ أَيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، في غَيرِ مُقاوَلِةِ الحَجّاجِ.
قولُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هي إشارةٌ إلى النَعيمِ الذي وقعت بِهِ البُشْرَى في الدنيا، والبُشرى في الآخرة، وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
قولُهُ تَعالى: {لهم البشرى فِي الحياةِ الدُنْيا وَفِي الآخِرَةِ} لهم: هذا الجارُّ والمجرور خبرٌ مقدَّمٌ، و "البُشرى" مبتدأٌ مؤخرٌ و "فِي الْحَيَاةِ" الجارُّ متعلِّقٌ به؛ أي: البشرى تقع في الدنيا، أو حال من "الْبُشْرَى"؛ مُتعلِّقٌ بمحذوف، والعامل في الحال الاستقرار في "لَهُمُ" لِوُقوعِهِ خبرًا، و "الدُّنْيَا" صفة لِ "الْحَيَاةِ" والجملة من المبتدأ والخبر مُسْتأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا أعدَّ لهم في الدارين. و "وَفِي الآخِرَةِ" معطوف على الجار والمجرور قبله.
قولُهُ: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} لا: نافية تَعْمَلُ عَمَلَ "إن"، و "تَبْدِيلَ" اسمُها. و "لِكَلِمَاتِ اللهِ" جارٌّ ومجرورٌ خبرُ "لا" والجملةُ مُعْتَرِضَةٌ في آخِرِ الكَلامِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ،
قولُهُ: {ذَلِكَ هو الفوزُ العظيمُ} ذَلِكَ: مُبْتَدَأٌ، و "هُوَ" ضميرُ فَصْلٍ، و "الْفَوْزُ" خبرُ المبتدأِ، و "الْعَظِيمُ" صفَُةُ "الفوزِ"، وهذه الجمْلةُ مُعتَرِضَةٌ أَيضًا، فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب كذلك. و "ذلك" إشارةٌ للبُشْرى وإِنْ كانَتْ مُؤَنَّثَةً لأنها في معنى التبشير. وقيلَ: هوَ إشارةٌ إلى النَعيمِ، أَوْ إلى كونهم مُبَشَّرينَ في الداريْنِ.