إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
(96)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} المرادُ: إنَّ الذِينَ قَضَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، وكتبَه عليهم في اللوحِ المحفوظِ كتابةَ علمٍ لا كِتابَةَ قَدَرٍ وقضاءٍ مُبْرَمٍ، لِمَا عَلِمَ مِنْ عِنَادِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ، أُولئكَ لَن يُؤْمِنُوا مَهْمَا أَجْهَدْتَ نَفْسَكَ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ. أَوْ المُرادُ: إنَّ الذين وَقَعَتْ كَلِمَتُهُ عَلَيْهم بِنُزولِ العذابِ بهم لا يُؤمِنونَ أَبَداً. وهوَ بَيانٌ لِسِرِّ إِصْرارِ الكَفَرَةِ على ما هُمْ عَلَيْه مِنَ الكُفْرِ والضَلالِ، فقد ثَبَتَتْ ووجَبَتْ بِمُقْتَضى المَشيئَةِ عَلى الحِكْمَةِ البالِغَةِ "كَلِمَةُ رَبِّكَ" أيْ حُكْمُهُ وقَضاؤهُ بِأَنَّهم يَموتونَ عَلى الكُفْرِ ويَخْلُدونَ في النَّارِ، وهو كَقْوِْلِهِ تَعالى في سورة السجدة: {ولكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنْي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} الآية: 13. وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخ، عَنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قولِهِ تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ" قال: حَقَّ عليهِمْ سَخَطُ اللهِ بما عَصَوْهُ. فهم "لاَ يُؤْمِنُونَ" أَبَداً إِذْ لا كَذِبَ لِكلامِهِ ولا انْتِقاضَ لِقَضائِهِ، أَيْ: لا يَؤمنون إيماناً نافعاً واقعاً في أَوانِهِ، فيَنْدَرِجُ فيهم المُؤمِنونَ عنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ مِثْلَ فرعونَ، أو عند الغَرْغَرَةِ حينَ الموتِ لقولِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَم: ((إنَّ اللهَ يَقْبَلُ توبَةَ العَبْدِ مالم يَغَرْغِرْ)) أخرجه الترمذيُ وابنُ ماجَةَ عن ابنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما، وقالَ أَبو عِيسى الترمذيُّ حديثٌ حسنٌ غَريبٌ. وهو ما أجمع عليه علماءُ الأمَّةِ كما قال ابنُ عطيَّة، ويَدْخُلُ فيهمُ المُرْتَدُّون.
قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}: إِنَّ الَّذِينَ: ناصِبٌ ناسخٌ واسمُهُ، و "حَقَّتْ" فعلٌ ماضٍ والتاءُ للتأنيثِ، و "عَلَيْهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِقٌ بِهِ، و "كَلِمَتُ" فاعلُهُ مضافٌ، و "رَبِّكَ" مضافٌ إِلَيْهِ، والجملةُ الفعليَّةُ هذه صِلَةُ المَوْصُولِ. وجملةُ "لا يُؤْمِنُونَ" في محلِّ رَفْعِ خبرِ "إنَّ" وجملَةُ: "إنَّ" مُسْتَأَنَفَةٌ.
وقرأَ الجمهورُ: {كلمتُ} بالإفرادِ، وقرأَ نافعٌ، وعامر وشيبة وأبو جعفر: "كلمات" بالجَمْعِ.
وهذا أحد المواضع التي ترسم فيها "كلمة" تاءً مبسوطةً لأنها جاءت مضافةً، وقد جاء في فتح ربِّ البريَّةِ شرحِ المُقَدّمَة الجَزَريَّة: (ص: 51): كلُّ تاءٍ مَبْسوطَةٍ فهي مُضافةٌ وليست كلُّ تاءٍ مضافةٍ مبسوطةً.