وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(13)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أهلكنا: الإهلاك هو الاسْتِئْصالُ والإفْنَاءُ. و "القُرونُ" جمع قَرْنٍ، وهم القَوْمُ المُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وأَصْلُهُ المُدَّةُ الطويَلَةُ مِنَ الزَمانِ، ثمَّ تووطئَ على أنَّه الجيلُ، وحُدِّ بمئةِ عامٍ. قالَ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما أخرجه الشيخانِ مِنْ حَديثِ عبدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: ((خيرُ القُرونِ قَرْني ثمَّ الذينَ يَلُونهم)) صحيحُ البخاري، رقم: (3651). والموطَّأُ رواية محمد بْنِ الحَسَنِ: (3/ 295) وزادَ الترمذيُّ: ((ثمَّ يجيءُ قومٌ يُعْطَوْنَ الشَهادَةَ، قبلَ أَنْ يَسْأَلوها)) وعندَ ابْنِ حَبَّانَ: ((ثمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حتى يَحْلِفَ الرَّجُلُ على يَمينٍ قبلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ، ويَشْهَدَ عَلى الشَهادَةِ قبلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ)). وقَرْنُ الشمس: أعلاها. وأوَل ما يَبْدو مِنْها في الطُلوع. وروى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، أنَّه قال: ((لاَ تُصَلُّوا حِينَ تَطْلَعُ الشَّمْسُ، وَلاَ حِينَ تَسْقُطُ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ شيطَان)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحيِحِهِ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الأَرْبَعَةُ بِاخْتِصَار, ومنهم من رواه أيضاً عن أبي أُمامةَ ـ رضي اللهُ عنه. أَرادَ أَنَّ الشَيْطانَ في ذلكَ الوَقْتِ. وقالَ بْعضُهم: أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ قَرنٌ. واسْتَشهَدَ عليه بقولِ الشاعر:
إذا ذهب القَرْنُ الذي أنتَ فيهم ........ وخُلِّفْتَ في قَرْنِ فأنت غريبُ
والقَرْنُ أيضاً: قَرْنُ الهودج. قالَ حاجِبٌ المازنيّ:
صَحا قلبي وأقْصَرَ غير أنّي ............. أهَشُّ إذا مررتُ على الحُمولِ
كَسَوْنَ الفارسيَّةَ كلَّ قَرْنٍ .................... وزَيَّنَّ الأشلَّةَ بالسُدولِ
والقَرْنُ: جانبُ الرَأْسَ، ويقالُ: منه سمّي ذو القَرْنَيْنِ لأنَّه دَعا قومَهُ إلى اللهِ تَعالى فَضَرَبُوهُ على قَرْنَيْهِ. والقَرْنانِ أيضاً: مَنارَتانِ تُبنَيان على رأسِ البِئْرِ ويُوضعُ فوقَهُما خَشَبَةٌ فتَعْلَّقُ البَكَرَةُ فيها. والقَرَنُ بالتحريك: الجَعْبة. والقَرَنُ أيضاً: السيف والنَبل. ورجلٌ قارِنٌ: معه سيفٌ ونَبْلٌ. والقَرَنُ: حبلٌ يقرَن به البعيران. قال جريرٌ:
أبْلِغْ أبا مِسْمَعٍ إن كنتَ لاقيَهُ ... أنّي لدى الباب كالمشدود في القَرَنِ
والآيةُ عَوْدٌ على بَدْءٍ، فقد عادَ الخطابُ إلى المُشركين، ليُخْبِرَ بِهِ اللهُ تَعَالَى كُفَّارَ مَكَّةَ بِمَا أَنْزَلَهُ فِي الأَقْوَامِ السَّابِقَةِ، مِنْ عَذَابٍ، بسببِ كفرِهم بِرَبِّهم ورِسالاتِ أَنْبِيائهم، ومن هؤلاء الأقوامِ: عاد، وثمود، وقومُ فرعون، وقومُ صالح، وقومٌ نوحٍ وقد كان قومُ نوحٍ من الكثرةِ بحيث ملؤوا الأرضَ لأنَّ الطوفان أغرق كلَّ من كان على وجه الأرضِ، فقد أَخْرَج ابْنُ أبي حاتمٍ عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنُ زَيْدٍ، قَالَ: "مَا عُذِّبَ قَوْمُ نُوحٍ حَتَّى مَا كَانَ فِي الأَرْضِ سَهْلٌ وَلا جَبَلٌ إِلاَّ وَلَهُ عَامِرٌ يُعَمِّرُهُ وَحَايزٌ يَحُوزُهُ". فقد ظَلَم أولئكَ الأقوامُ أَنْفُسَهُمْ، بكُفْرِهم، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تعالى، وفيه تهديدٌ لهمْ بأنَّهم غيرُ ناجينَ مِنْ عذابِ اللهِ إذا أَصَرّوا على كُفْرِهِمْ وتَكذيبِ نَبِيِّهم محمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّم.
قولُهُ: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فإنَّ تلك الأُمَمَ أَيْضاً قدْ كَذَّبُوا رُسُلَهم فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنَ الآياتِ البَيِّنَاتِ الباهراتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فيما يَنْقُلونَ عَنْ ربِّهم، وحاربوا أَنْبياءَهم، كما تفعلون أَنْتم، فأخذَ اللهُ تعالى كلاً مِنْ تلك الأمم البائدةِ بما تَسْتَحِقُّ مِنْ عَذابٍ، فأَهْلَكَهُم بِهِ.
قولُهُ: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} إخبارٌ
عَنْ قَسْوَةِ قُلوبهم وشدّة كفرهم، وذلك لأَنَّهُ تعالى عَلِمِ بِعِلْمِهِ القَديمِ الذي يكشفُ حقائق الأشياءِ والأُمورِ قبلَ وجودها، وبعده، علمَ أنَّ تلك الأمم والأقوام الكافرة الهالكة مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لَوْ تَرَكَهُمُ اللهُ، وقد بَيَّنا غيرَ مرَّةٍ في غَيرِ مَوْضِعِ مِنْ هذا السِفْرِ أَنَّ العلمَ شيءٌ والقدرةَ شيءٌ آخَرُ، فحقيقةُ العِلْمِ كشْفُ حقائقِ الأمور وليس الإجبار عليها. فَاعْتَبِرُوا يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ. فَكَمَا أَهْلَكَ اللهُ مَنْ قَبْلَكُمْ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بِالمُجْرِمِينَ مِنْكُمْ إذا استمروا في إجرامهم.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مِن قَبْلِكُمْ: هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِ "أَهْلكنا"، ولا يجوز أن يكونَ حالاً من "القرون" لأنَّهُ ظَرْفُ زَمانٍ، فلا يَقَعُ حالاً عَنِ الجُثَّةِ كما لا يَقَعُ خَبراً عنها. والجملَةُ عطفٌ على جملة: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الآية: 11من هذه السورةِ المباركةِ بما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الإنْذارِ بِأَنَّ الشَرَّ قدْ يَنْزِلُ بهم.
قولُه: {لمّا ظلموا} لَمَّا: اسْمُ زَمانٍ بمَعنى "حين" على التحقيق، وتُضافُ إلى الجُمْلَةِ. وقد أكثر العربُ في كلامِهم تقديم "لمّا" في صُدُرِ جملَتِهم فأشَمَّوا بِذلك الَتقديم رائحةَ الشَرْطِيَّةِ، فأَشْبَهَتِ الشُروطَ لأنَّها تُضافُ إلى جملةٍ فَتُشْبِهُ جملَةَ الشَرْطِ، ولأنَّ عامِلَها فعلُ مُضِيٍّ، فبذلك اقْتَضَتْ جملَتينِ فَأَشْبَهَتْ حُروفِ الشَرْطِ.
قولُهُ: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبَيِّنَاتِ} يجوزُ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على "ظلموا" فلا محلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ عِنْدَ سِيبَويْهِ، و عند غيره محلُّهُ الجَرُّ، لأنَّهُ عُطِفَ على ما هُو في محلِّ جَرٍّ بإضافَةِ الظَرْفِ إلَيْهِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، فتكونُ الواوُ حاليَّةً، أَيْ: ظَلَمُوا بالتَكْذيبِ، وقدْ جاءتهم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَواهِدِ على صِدْقِهم، و "بالبَيِّنَاتِ" متعلقٌ ب "جاءتهم" على أَنَّ الباءَ للتَعديَةِ، ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ مِنْ "رسلهم"، أيْ: جاؤوا مصاحِبينَ للبَيِّناتِ.
قولُهُ: {وَمَا كَانُواْ} الظاهرُ أنَّهُ عَطْفٌ على "ظلموا". وجُوِّزَ أَنْ يَكونَ اعتراضاً كَونَهُ وَقَعَ بينَ الفِعلِ ومَصْدَرِهِ التَشْبيهِيِّ في قولِهِ تعالى: "كذلك نَجزي". قال الزمخشريُّ: واللامُ لِتَأْكيدِ نفيِ إيمانهم. والضميرُ في "كانوا" عائد على "القرون". وجَوَّزَ مُقاتِلٌ أَنْ يَكونَ ضَميرَ أَهْلِ مَكَّةَ، وفيهِ إذاً خُروجٌ مِنْ ضَميرِ الخِطابِ في قولِهِ: "قبلَكم" إلى ضميرِ الغَيْبة، وإذاً فهوَ الْتِفاتٌ، والمعنى: وما كنتم لتؤمنوا. و "كذلك" نَعْتٌ لمَصْدَرٍ محذوفٍ، والتقديرُ: مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ نَجْزِي.
قرأَ العامَّةُ: {نجزي} بنونِ العظمةِ، وقُرئَ "يَجْزي" بِياءِ الغَيْبَةِ، وهوَ الْتِفاتٌ مِنَ التَكَلُّمِ في قولِهِ: "أَهْلكنا" إلى الغَيْبة.